Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

ردود وتعقيبات رقم: ١٥

رد الشيخ ـ حفظه الله ـ وإدارة موقعه
على 
سعيد بن دعاس اليافعي المتطاول
المحروم من التمييز بين الحق والباطل
الناقض للقواعد الشرعية بالمقاول والمعاول

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقَدْ سبق وأَنْ تعهَّدَتِ الإدارةُ بعدم الردِّ على الإغارات الحاقدة والاشتغال بما هو أنفعُ، ولكنَّ تماديَ داء التعالم ـ الذي حَمَلَ المنتقِدَ المتطاوِلَ المدعوَّ ﺑ: «أبي حاتمٍ سعيـد بنِ دعَّاس المشوشي اليافعي اليمني» في رسالته التي وَسَمها ظلمًا وعدوانًا ﺑ: «تمادي فركوس في مخالفة الحقِّ وبرهانِه المنقول والمحسوس» على الخروج عن أصول الحوار والانحرافِ عن سلوك سبيل الأدب، إلى ركوب أسلوب العوامِّ مِنَ الشتم والسَّبِّ ـ جَعَلَ الإدارةَ تُولِي على نفسها توضيحَ الالتباس لذوي الأفهام مِنَ القُرَّاء المُنْصِفين، ورَفْعَ الأوهام التي قد يقع فيها مَنْ لا يعرف حقيقةَ أمرِهم.

وإِنْ كان الأَوْلى السكوتُ على مَنْ عادتُه في المقال التفحُّشُ والتفظيعُ، وفي مُناظَرتِه التسفُّهُ والتجهيلُ، وفي أسلوبِه التعنُّتُ والوقيعةُ في الأخيار؛ قال الباجيُّ ـ رحمه الله ـ: «ولا يُناظِر مَنْ عادتُه التسفُّهُ في الكلام ولا مَنْ عادتُه التفظيعُ؛ فإنَّه لا يستفيد بكلامه فائدةً»(١)، وقال الجوينيُّ ـ رحمه الله ـ: «وعليك ألَّا تُفاتِحَ بالمناظرة مَنْ تعلمه متعنِّتًا؛ لأنَّ كلامَ المتعنِّتِ ومَنْ لا يقصد مرضاةَ الله في تعرُّف الحقِّ والحقيقةِ بما تَقوَّله يُورِثُ المباهاةَ والضجر وحُزْنَ القلب وتعدِّيَ حدودِ الله في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وإِنْ لم تعلمه كذلك حتَّى فاتَحْتَه بالكلام ثمَّ علِمْتَه عليه وَجَبَ عليك الإمساكُ عن مناظَرتِه، فإِنْ رأيتَ نصرةَ دِينِ الله سبحانه في الإمساك عنه زِدْتَ في الحدِّ وبالَغْتَ في التحرُّز عنه»(٢).

هكذا، ولا يزال النموذجُ الدَّمَّاجيُّ بأخلاقياته المُزْرِية يحرِّك آليَّاتِ الجهل المركَّب، ومِنَ الصعب بمكانٍ أَنْ تُنيرَ بالإفهام مَنْ ظنَّ لجهلِه أنَّ فَهْمَه يعلو كُلَّ فهمٍ، وأنه ينفرد بالحقِّ دون سائر البشر، وهذا ـ بلا شكٍّ ـ مِنْ أعظمِ آفات العلوم، قال ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ: «لا آفةَ على العلوم وأهلها أضرُّ مِنَ الدُّخَلاء فيها وهُمْ مِنْ غيرِ أهلها؛ فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنهم يعلمون، ويُفْسِدون ويقدِّرون أنهم يُصْلِحُون»(٣).

ومِنْ مظاهرِ قِلَّةِ فهمِه وضعفِ رُشْده مِنْ مجموع مسوَّداته: أنَّ هذا المُتطاوِل المغرور لا يفرِّق بين حالةِ «ما ينبغي أَنْ يكون عليه» وحالةِ «ما هو كائنٌ فيه»، ومنظارُه في ذلك قاصرٌ للأسف الشديد، أسَّسه على الحالة الأولى، مع غفلةٍ تامَّةٍ عن الحالة الثانية؛ الأمرُ الذي ولَّد في نفسية المسكين ونفسيةِ مُزَكِّيه حساسيَّةً مُفْرِطةً لحالات الحاجة والاضطرار، بلغَتْ إلى نفيِ وإنكار القواعد الشرعية القائلةِ بأنَّ: «المَمْنُوعَ شَرْعًا يُبَاحُ عِنْدَ الحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ وَهِيَ الضَّرُورَةُ»، وقاعدةِ: «الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ وَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا»، وقاعدةِ: «الحَاجَةُ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً»، وهذا ليس بغريبٍ على النموذج الدَّمَّاجيِّ في ردِّ هذه القواعد؛ فقَدْ ربَّاه شيخُه على هذا المسلكِ التربويِّ المَقيت، حيث صَرَّح شيخُه مِنْ قبلُ بكُلِّ معاني الاحتقار والتهوين: أنه يبول ـ أكرمكم اللهُ ـ على القواعد الأصوليَّةِ للإمام الشافعيِّ رضي الله عنه(٤).

ولا يخفى على كُلِّ ذي لبٍّ أنَّ ردَّ هذه القواعدِ المستنبَطة مِنْ دلالات النصوص التشريعية العامَّةِ المعلَّلةِ هو ردٌّ لتلك النصوص المُحْكَمة مِثْلَ: قولِه تعالى: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ [الأنعام: ١١٩]، وقولِه تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ [البقرة: ١٧٣]، وقولِه تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣ [المائدة]؛ فهذه القواعدُ وليدةُ الأدلَّة الشرعيَّة والحجج الفقهيَّة؛ فلا يجوز ردُّها باعتبارِ مَبْدَئها اعتقادًا، ولا باعتبارِ مَنْ تَلبَّسَ بها عملًا.

ومِنْ هنا نُدْرِكُ موردَ ضلالِ فهمِ هذا النموذجِ الحجُّوريِّ الدَّمَّاجيِّ المتعالم، الناشئ مِنْ عدم التفريق بين الأصل المحرِّم وبين الاستثناء المبيح للحاجة العارضة، كما أوضح ذلك شيخُنا أبو عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ في كلمته الموسومة ﺑ: «في نفي التَّعارض بين الأصل المحرِّم سدًّا للذريعة والاستثناء المبيح للمصلحة الراجحة»(٥).

فالمتطاول المغرور جَعَل مِنَ الأصل المحرِّم مانعًا مِنْ أَنْ يجيب بحكم الضرورة في الاختلاط الواقع في الطواف والسعي وغيرها مِنَ المشاعر، وكذا المستشفيات ووسائل النقل ونحوها، كما أنه لـم يُخْبِرْنا: كيف يسافر خلائقُ دمَّاجٍ إلى أوطانهم وأداءِ نُسُكهم؟ كما لم يُفْصِحْ لنا: بأيِّ وسيلةٍ سافَرَ دُعاتُهم إلى إنجلترا وغيرها مِنَ البلدان؟ وكذلك الموالون مِنْ دُعَاةِ الغُلُوِّ والتفظيع؛ فقَدْ سافروا في الاختلاط، واستقبلتهم مُضيفاتُ الطائرة بالتحدُّث والإكرام، مع أنه لا ضرورةَ لسفرِهم... فكفانا ـ إذَنْ ـ مِنْ مظاهر التعالم والتورُّع واستعراضِ جَنَاب التقوى!! فربُّك هو أعلمُ بمَنِ اتَّقى.

قال الشاعر [صالح بنُ عبد القدُّوس]:

وَإِنَّ عَنَاءً أَنْ تُفَهِّمَ جَاهِلاً
مَتَى يَبْلُغُ البُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ

 

فَيَحْسَبَ ـ جَهْلاً ـ أَنَّهُ مِنْكَ أَفْهَمُ
إِذَا كُنْتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ؟(٦)


ومِنْ سقيمِ فهمِه عدمُ تفريقه بين تقليد العلماء والاستشهادِ بأقوالهم، وشتَّانَ بين تقليدِ عالمٍ مِنْ غيرِ معرفةٍ لدليله، وبين إيراد الفتوى معزَّزةً بالأدلَّة والقواعد، ثمَّ الاستشهادِ على صحَّةِ ما ذَهَب إليه بأقوال أهل العلم السابقين أو المعاصرين، ولكنَّ تعنُّتَه أعماهُ عن الحقِّ؛ فأصبح يرى المُحَالَ صوابًا كما قال الشاعرُ [أبو العبَّاس الناشئ]:

وَإِذَا بُلِيتُ بِجَاهِلٍ مُتَحَامِلٍ
أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا

 

يَجِدُ المُحَالَ مِنَ الأُمُورِ صَوَابًا
كَانَ السُّكُوتُ عَنِ الجَوَابِ جَوَابَا
(٧)

وأمَّا شرحُه ـ هداهُ اللهُ ـ لحديثِ: «إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ»(٨) فعلى هواهُ، وشُرَّاحُ الحديثِ لا يُقِرُّونه على هذا الفهم ـ كما سيأتي ـ وأمَّا مسألةُ جنسِ فعلِ المأمور به فقَدْ خَبَط فيها خَبْطَ عشواءَ، ورَحِمَ اللهُ الهاديَ بنَ إبراهيمَ الوزير القائلَ: «إنَّ مِنْ حقِّ الناقضِ لكلام غيرِه: أَنْ يفهمَه ـ أوَّلًا ـ ويعرفَ ما قَصَدَ به ـ ثانيًا ـ ويتحقَّقَ معنَى مقالتِه، ويتبيَّنَ فحوى عبارته؛ فأمَّا لو جَمَع لخصمِه بين عدم الفهم لقصدِه، والمؤاخَذةِ له بظاهرِ قوله؛ كان كمَنْ رمى فأشوى، وخَبَط خَبْطَ عشْوَا، ثمَّ إِنْ نَسَبَ إليه قولًا لم يعرِفْه، وحمَّله ذنبًا لم يقترفه؛ كان ذلك زيادةً في الإقصا، وخلافًا لِمَا به اللهُ تعالى وصَّى، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ [الأنعام: ١٥٢]، وقال تعالى: ﴿ قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ [الأعراف: ٢٩]»(٩).

هذا، وإلى القُرَّاءِ المُنْصفين نجلِّي الإبهاماتِ الواقعةَ في ذِهْنِ المُتطاوِل سعيد ابنِ دعَّاسٍ المغرور على الوجه التالي:

أوَّلًا: إنَّ الشَّيخ ـ حفظه الله ـ لم يقل بجواز الاختلاط الذي هو ذريعةٌ للوقوع في الفاحشة والحرام، بل نصَّ ـ كما في الرسالة بعد أَنْ ذَكَرَ أقسامَ الاختلاط ـ على أنَّ النوع المذكور: «الأصلُ فيه المنعُ وعدمُ الجواز»(١٠)، وعلى هذا يَرِدُ الخطأُ في نسبة القول للشيخ بإباحة الاختلاط في هذا القسم، لا كما أوهمه سعيد بنُ دعَّاسٍ المغرورُ مِنْ أنَّ الشيخ ـ حفظه الله ـ حَمَل كلامَ المردودِ عليهم في الرسالةِ على إباحة الاختلاط مطلقًا حتَّى ما كان لغرضِ الفاحشة؛ فإنَّ هذا الأخيرَ غيرُ مقصودٍ باتِّفاقٍ؛ وعليه يقال: ينبغي أَنْ يُفَرَّقَ بين الأصل المحرِّم وبين الاستثناء المبيح للحاجة العارضة؛ فإنَّ الاختلاطَ الأصلُ فيه الحرمةُ وعدمُ الجواز، ما لم تَرِدِ الضرورةُ أو الحاجة التي تُنَزَّلُ منزلتَها؛ فإنَّه يُعْدَلُ بها عن هذا الأصلِ إلى ما تقتضيه الضرورةُ أو الحاجةُ كسائر أحكام الشرع؛ فمِنَ القواعدِ المقرَّرة في الدِّينِ أنَّ «المَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ»، و«الحَرَجَ مَدْفُوعٌ» بنصِّ قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: ٧٨]، وقد قال الجوينيُّ ـ رحمه الله ـ: «الحاجةُ في حقِّ الناس كافَّةً تُنَزَّلُ منزلةَ الضرورة في حقِّ الواحد المضطرِّ»(١١)، وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها كما جاز بيعُ العرايا بالتمر»(١٢)، وقال ـ رحمه الله ـ: «الشريعةُ جميعُها مبنيَّةٌ على أنَّ المفسدة المُقتضِيةَ للتحريم إذا عارضَتْها حاجةٌ راجحةٌ أُبيحَ المحرَّمُ»(١٣)، وقد تَقرَّرَ ـ أيضًا ـ في القواعد أنَّ «مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَمَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ»، فظَهَرَ بهذا ـ وعلى وَفْقِ ما قُرِّرَ سابقًا في بيانِ هذا الأصلِ الذي تُبْنَى عليه الشريعةُ كما نُقِلَ عن ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ ـ أنه لا يمكن أَنْ يَفهم أولو العقلِ الذين رُزِقُوا فهمًا في دِينِ الله: أنَّ مَنْ أجاز شيئًا للحاجة والضرورة فقَدْ حاوَل لَيَّ أعناقِ الأدلَّة، وصار مِنْ دُعاةِ الفتنة، وخالف النصوصَ بالهوى، بل يقوله مَنْ سُلِبَ رجاحةَ العقلِ وضُرِبَ عليه لِبَاسُ الحمق.

ثانيًا: قد جَعَل هذا المتطاوِلُ المغرورُ نَقْلَ الشيخ ـ حفظه الله ـ لفتاوَى بعضِ أهل العلم الموافِقَةِ لِمَا قرَّره في الرسالة مِنْ جواز العمـل والدراسة في أماكنِ الاختلاط حالَ الضرورة والحاجة مِنْ باب التقليد المذموم الذي هو أثرٌ للتعصُّب واتِّباعٌ للهوى، مع أنَّ الشيخَ ـ حفظه الله ـ لم يَنْقُلْ ذلك تقليدًا ـ كما صرَّح به في بدايةِ رسالته ونَقَله عنه سعيد بنُ دعَّاسٍ المغرورُ ـ وإنَّما نَقَله تعزيزًا لِما قرَّره؛ فيكون ـ حينئذٍ ـ غيرَ مستقِلٍّ بقولٍ خالَفَ فيه أهلَ الحقِّ والعلم مِنْ دُعَاةِ السنَّة ورجالها.

ولا زال أهلُ العلم قديمًا وحديثًا ينقل بعضُهم عن بعضٍ ما يؤيِّدون به ما قرَّروه استشهادًا واستئناسًا؛ إذ إنَّ الباحث إذا خَلَص إلى نتيجةٍ وعَلِم أنه قد سُبِق إليها اطمأنَّتْ نفسُه إلى صحَّةِ ما ادَّعاه؛ ولذلك جاء تحذيرُ العلماء مِنْ قولٍ ليس للقائل به فيه إمامٌ، ولم يقل أحَدٌ منهم: إنَّ ناقِلَ أقوالِ العلماء فيما يؤيِّد ما ذَهَب إليه: إنه ضربٌ مِنْ ضروب التقليد، إلَّا ما كانَ مِنْ مسوِّدِ التمادي بالباطل، وهو بذلك قائلٌ بما ليس له فيه إمامٌ، وقد قِيلَ: «لا تحدِّثِ العلمَ غيرَ أهله فتجهلَ، ولا تمنعِ العلمَ أهلَه فتَأثمَ»(١٤).

وأمرُ هؤلاء عَجَبٌ في عَجَبٍ؛ فإنْ ذَكَر لهم الشيخُ ـ حفظه الله ـ أو غيرُه مِنَ الأدلَّةِ والبراهينِ ما يعجزون عن ردِّه واجهوه بقولهم: «ليس له سلفٌ مِنْ أهل السنَّة، وإنَّما فتواه استمدادٌ مِنَ المنحرفين والحزبيِّين والإخوان المسلمين»، وإِنْ ردَّ تُهْمَتَهم بسردِ قائمةٍ مِنْ عُلَماءَ أجِلَّاءَ قالوا بقوله وذهبوا مذهبَه صاحوا به كاذبين: «إنَّه مقلِّدٌ!!»، فيا لله مِنْ تخبُّطِ القومِ وتعصُّبِهم وتَطاوُلِهم. وهذا ـ بلا شكٍّ ـ مِنْ علامات الحمق التي يجب على العاقل تفقُّدُها ممَّنْ خَفِيَ عليه أمرُه(١٥).

وعهدُنا بشيخنا ـ حفظه الله ـ منذ أمدٍ بعيدٍ ـ في دروسه وحلقاته وفتاواه وأجوبتِه ـ التنفيرُ مِنَ التقليد المذمومِ والبعدُ عنه والتحذيرُ مِنْ سلوكه، وكُتُبُه وأشرطتُه خيرُ دليلٍ لمَنْ كان له بصرٌ لم تُصِبْه غشاوةُ منهجِ الإقصاء، ولله درُّ القائل:

قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ

 

وَيُنْـكِرُ الفَـمُ طَعْـمَ المَاءِ مِنْ سَقَـمِ

ونزيد هنا تعزيزًا وتأييدًا لِمَا سَبَق بذِكْرِ كلامٍ آخَرَ للشيخ ابنِ عثيمين ـ رحمه الله ـ حيث سُئِل: «فضيلةَ الشيخ، نحن طلبةٌ في المعهد الصحِّيِّ، مِنْ ضِمْنِ منهجِنا: التطبيقيُّ العمليُّ في المستشفيات، والذي يضطرُّنا إلى مُلازَمةِ النساء مِنَ الممرِّضات، والاستفادةِ منهنَّ في مجال التمريض، ومحادَثتِهنَّ وسؤالِهنَّ، وقد يكُنَّ غيرَ مسلماتٍ، وقد تحصل الخلوةُ بهنَّ في بعض الأحيان، فما رأيُ فضيلتكم؟».

الجواب: «أرى أنَّ هذا إذا دعَتِ الضرورةُ إليه ولم يكن لكم مِنْ هذا بُدٌّ فاتَّقوا اللهَ ما استطعتم، ولا تُكْثِروا محادَثتَهنَّ إلَّا فيما دَعَتْ إليه الضرورةُ، وغُضُّوا البصرَ عنهنَّ بقدرِ ما يمكن، ونسأل اللهَ تعالى أَنْ يأتِيَ باليوم الذي ينفرد فيه الرجالُ بعلومهم والنساءُ بعلومهنَّ. أمَّا في مسألةِ الخلوة فلا يجوز إطلاقًا، ولكِنْ كيف يخلو بها وعندهما المريضُ؟! إلَّا إذا كان المريضُ لا يشعر..»(١٦).

وقال ـ رحمه الله ـ فيمَنِ ابتُلِيَ بالدراسة في الاختلاط: «ممكنٌ أَنْ يُقال بالتفصيل: إِنْ دعَتِ الضرورةُ لذلك ـ بأَنْ لا يُوجَد جامعاتٌ أو مدارسُ خاليةٌ مِنْ ذلك ـ فهُنا قد تكون هناك ضرورةٌ، وفي هذه الحالِ يجب على الطالب أَنْ يبتعدَ عن الجلوس إلى امرأةٍ أو التحدُّثِ معها أو تَكرارِ النظر إليها، يعني: بقدرِ ما يستطيع يبتعد عنها. فأمَّا إذا كان يمكن أَنْ يدرسَ في مدارسَ أخرى خاليةٍ مِنَ الاختلاط أو فيها اختلاطٌ نصفُ اختلاطٍ ـ بأَنْ يكون النساءُ بجانبٍ والرجالُ بجانبٍ آخَرَ وإِنْ كان الدرسُ واحدًا ـ فلْيَتَّقِ اللهَ ما استطاع»(١٧).

وسُئِل الشيخ عبد المحسن العبَّاد ـ حفظه الله ـ: «ما توجيهُكم لمَنْ يدرس العلومَ الدنيويَّة في المدارس أو الجامعات التي يكون بها اختلاطٌ؟».

فأجاب: «لا يجوز للإنسان أَنْ يدرس في المدارس التي فيها اختلاطٌ، اللَّهمَّ إلَّا إذا كان مضطرًّا لذلك، ولْيَبتعِدْ عن النساء؛ لأنَّ الرجل يمكن أَنْ يبتعدَ عن النساء»(١٨).

وسُئِل الشيخ النجمي ـ رحمه الله ـ: «عندنا في الجزائر معاهدُ تدرِّس العلومَ الشرعية تكون الدراسةُ فيها بجلوس الطلبة في الأمام والنساءِ في الوراء، ويدرِّسنا الرجالُ والنساء، وعندما يدرِّسنا الرجالُ؛ نحن المُلتزِماتُ نلبَسُ جلابيبَنا ونغطِّي وجوهَنا ونجلس في المؤخِّرة، ولا نحضر إلَّا في الدُّروس الإجبارية، مِنْ أجل الحصول على شهاداتٍ تمكِّننا مِنْ تدريس النساء بترخيصاتٍ مِنْ وليِّ الأمر لا تُعطى إلَّا للمتحصِّلات على شهاداتٍ مِنْ هذه المعاهد، وأهلُ البِدَعِ يمنعوننا مِنَ المساجد إلَّا بهذه الشهادات؛ فما توجيهُكم شيخَنا؟».

فأجاب: «أقول: إذا كان الأمرُ عندكم كما تقولين فهنا يجوز لكم بهذا الشرط: أَنْ تلبَسْنَ جلابيبَكنَّ وتجلسن في المؤخِّرة، وتسمع المرأةُ مِنَ المُحاضِر أو المحاضِرة، ويعني: تُطْلِق إذا كان رجلٌ، المُحاضرُ رجلٌ؛ تُطْلِقُ يعني: تغطِّي وجهَها ولا تنظر إليه، هذا الذي يجب، وإذا فعلتنَّ ذلك نرجو لَكُنَّ ـ إِنْ شاء اللهُ ـ الخيرَ إذا كان بهذه النيَّة: بنيَّةِ أَنْ تدرِّسن النساءَ الأخرياتِ».

فذُكِرَ له أنَّ السائلةَ تقول: «علمًا أنَّنا سأَلْنا الشيخَ زيدًا(١٩) أمسِ فأَقَرَّنا بالشُّروط الشرعية: بستر الوجوه، وعدمِ الاندماج مع الرجال، والانصرافِ مباشَرةً بعد الدروس، وقال لي: حتَّى يُيسِّرَ اللهُ الأمورَ».

فأقرَّه الشيخُ بقوله: «تمام»(٢٠).

وسُئِل الشيخ اللحيدان ـ حفظه الله ـ: «لقد عمَّتِ البلوى بالاختلاط في أماكنِ التدريس؛ فهل يجوز الدراسةُ في هذه الأماكنِ أو التدريسُ فيها؟».

فأجاب:«لا شكَّ أنَّ الواجب على الإنسان أَنْ يقوم بما يقدر عليه مِنْ تجنُّب أسباب الخطر والنهيِ عن أسباب الفساد، والناسُ محتاجون للتعلُّم؛ فإذا تَعذَّرَ على الإنسان التعلُّمُ إلَّا في مكانٍ فيه اختلاطٌ؛ فاللهُ جلَّ وعلا لمَّا قال: ﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ [النور: ٣٠]، وقال: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ [النور: ٣١]؛ لا بُدَّ أنَّ هنالك الْتقاءً، والناسُ يختلطون قهرًا في المَطاف، لا يستطيعون أَنْ يتخلَّصوا مِنْ ذلك الاختلاط، إنَّما على الناسِ أَنْ يتَّقوا اللهَ بقَدْرِ ما يستطيعون، وأصبح التعليمُ لا بُدَّ للناس منه، لا يَجِدُ الواحدُ وظيفةً يعمل بها أو لا يُدْرِكُ تعليمًا إلَّا بهذه الصورة، أو قد لا يكون قادرًا على أَنْ يستأجر مَنْ يعلِّمه، عليه أَنْ يتَّقِيَ اللهَ ويصدق في ذلك، واللهُ يُعينُ المستعينين به».

أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ

 

إِذَا جَمَعَتْنَا ـ يَا جَرِيرُ ـ المَجَامِعُ

فهل يجرؤ المتمادي بالباطل على شيخِنا وغيرُه ممَّنْ سَلَك مسلكَه المتهاويَ أَنْ يَصِفوا هؤلاءِ المشايخَ بأنَّهم مِنْ دُعاةِ الاختلاط وأنهم متمادون في الباطل!! وكلامُهم في المسألة المتنازَعِ فيها هو عينُ كلامِ شيخنا ـ حفظه الله ـ؟

فلِمَ لم يسوِّدِ المتمادي بالباطل رسالةً يردُّ فيها على المشايخ المذكورين ويَصِفُهم بما وَصَف به شيخَنا ـ حفظه الله ـ لقيام المقتضي؛ وهو: أنَّ مشايخ الحجازِ ونجدٍ مِثْل الشيخ ابنِ بازٍ والشيخ ابنِ عثيمين والشيخ النجمي والشيخ زيد ـ رحمهم الله ـ والشيخ العبَّاد واللحيدان ـ حفظهما الله ـ وغيرِهم أشدُّ شهرةً مِنْ شيخنا، وفتاواهم يَلتزِمُها جمهورٌ كبيرٌ مِنَ المسلمين يفوق عددُهم عددَ مَنْ يَلتزِمُ فتوى شيخنا ـ حفظه الله ـ؟

أم أنَّ لحوم هؤلاء المشايخ ـ عند سعيد بنِ دعَّاسٍ وإخوانِه ـ مصونةٌ بحصانةٍ عِرْضِيةٍ خاصَّةٍ تُورِثُهم سمومًا قاتلةً إذا نَهَشوها دون سائر العلماء؟!!

فلو سلَّمْنا ـ جدلًا ـ أنَّ ما ذَهَب إليه مَنْ ذُكِرَتْ أسماؤُهم وغيرُهم خطأٌ وزللٌ فمَنِ الأحقُّ بالطعن؟ آلذي شهرتُه أوسعُ، أم الذي حرَّر جوابًا لأهل بلده ومَنْ كان مِثْلَها في ابتلائها؟ الجوابُ يعرفه كُلُّ مُنْصِفٍ.

فالتركيزُ ـ إذًا ـ في الرَّدِّ على الشيخ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ ولَمْزه وطَعْنه واتِّهامه بالباطل دون غيره ممَّنْ قال بقوله له أحَدُ تفسيرين، أحَدُهما أَمَرُّ مِنَ الآخَر:

الأوَّل منهما: أنَّ الطَّعن لِذَاتِ الشيخ ـ حفظه الله ـ وشخصِه حسدًا وحقدًا، لا دَخْلَ للمسائل المطروحةِ فيه.

وما ذَنْبُ شيخنا ـ حفظه الله ـ إذا حَقَّق النظرَ واجتهد وحصلَتْ له الموافَقةُ مع أهل العلم والتقوى، فهل يموت حاسِدُوهُ حسرةً وكمدًا ممَّا آتاهُ اللهُ مِنْ فضله؟!

وصَدَق الشاعرُ إذ يقول:

وَمَا عَلَى العَنْبَرِ الفَوَّاحِ مِنْ حَرَجٍ

 

إِنْ مَاتَ مِنْ شَمِّهِ الزَّبَّالُ وَالجُعَلُ

والثاني: أنَّ القوم الطاعنين أصحابُ هوًى لا ميزانَ لهم في الردود، يتركون الأخطرَ ـ على قواعدهم ـ خوفًا على مناصبهم الدعوية، وينهشون غيرَه بدعوى الغيرة على المنهج، وهذا وَحْدَه كفيلٌ بإسقاطِ جميعِ ما كَتَبوه وخطُّوه بغيًا وعدوانًا.

وأمَّا ما تَوهَّمه المتمادي في اتِّهامِ شيخنا بالباطل مِنْ أنَّ أقوالَ هؤلاء العلماءِ تُخالِفُ أقوالًا أخرى لأهل العلم هم أكثرُ أو أعلمُ ـ حسب قوله ـ فغيرُ صحيحٍ؛ إذ إنَّ جميع الأئمَّةِ والعلماءِ يتَّفقون على عدمِ جواز الاختلاط أصالةً، ويجيزونه ضرورةً؛ عملًا بما تَقدَّمَ مِنَ النصوص والقواعد.

وما ساقَهُ مِنْ فتوى اللجنة الدائمة ـ حَفِظ اللهُ أحياءَها ورَحِمَ الميِّتَ منهم ـ فلا تَعارُضَ بينها وبين ما قَرَّره شيخُنا ـ حفظه الله ـ في «الصراط»، مِنْ حيث إنَّ فتوى اللجنة الدائمة عن الأصل، وهو الحالةُ العاديَّة التي يَتَّفِقُ الكُلُّ على حكمِ التحريم فيها، أمَّا ما قَرَّره شيخُنا ـ حفظه الله ـ فمُنْصَبٌّ على الاستثناء للحاجة والضرورة، وهُمَا حالانِ غيرُ الأصلِ فَافْتَرقَا. ويؤكِّدُ هذا الجمعَ أنَّ اللجنة الدَّائمة حين أصدرَتِ الفتوى كان على رأسِها الشيخُ عبد العزيز بنُ بازٍ ـ رحمه الله ـ، وكان قد أفتى لمنسوبي الصحَّةِ في مسألةِ تطبيب المرأةِ للرجل في مجالِ طِبِّ الأسنانِ بقوله: «فالواجبُ أَنْ تكونَ الطبيباتُ مختصَّاتٍ للنساء، والأطبَّاءُ مختصِّين للرجال، إلَّا عند الضرورة القصوى إذا وُجِد مرضٌ في الرجال ليس له طبيبٌ رجلٌ، فهذا لا بأسَ به، واللهُ يقول: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ [الأنعام: ١١٩]»(٢١)، وكذا الشيخ الفوزان ـ حفظه الله ـ قال بالاستثناء على نحوِ ما ساق الشيخُ ـ حفظه الله ـ فتواهُ في «الصِّراط»(٢٢)، هذا مِنْ جهةٍ.

ـ ومِنْ جهةٍ أخرى، فإنَّ فتوى اللجنة الدائمة تُخرَّج على البلاد التي سَلَّمها اللهُ مِنَ الاختلاط الآثم، وما قَرَّره شيخُنا ـ حفظه الله ـ وغيرُه مِنَ العلماء فمخرَّجٌ على البلاد التي ابتُلِيَتْ بهذه الفتنةِ ولم تسلم أماكنُ العملِ والدراسةِ فيها مِنَ الاختلاط المحرَّم.

ثمَّ إنَّ استدلاله باللجنة الدائمة: أليس هو مِنَ التقليد المزعومِ الذي رَمَى به شيخَنا ـ حفظه الله ـ سابقًا؟ فقَدِ انقلب السحرُ على الساحر. وصَدَق الإمامُ الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ القائلُ:

أَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِ السَّفِيهِ

 

فَكُـلُّ مَا قَـالَ فَهْـوَ فِيــهِ

فإمَّا أنَّ مسوِّد التمادي لا يفقه الفرقَ بين حكمِ الحالةِ العاديَّة وحكمِ غيرها، فكيف يكتب مُنتقِدًا ما لا يفقهه ولا يفهمه؟ وتلك مصيبةٌ، وإمَّا أنَّه يفقه ذلك ولكنَّه يتعامى ويتمادى في نسبةِ الباطل لمَنْ هو منه بريءٌ مِنْ أجل الطعن فالإسقاطِ، وتلك مصيبةٌ أعظمُ.

وحينئذٍ لا نملك إلَّا أَنْ نسأل اللهَ العليَّ العظيمَ أَنْ يَقِيَنَا فِتْنتَهم ويجنِّبَنا طغيانَهم ويَدْرَأَ عنَّا بهتانَهم.

ورحم اللهُ ابنَ القيِّم القائلَ: «فإذا ظَفِرْتَ برجلٍ واحدٍ مِنْ أولي العلم طالبٍ للدليلِ مُحَكِّمٍ له مُتَّبِعٍ للحقِّ حيث كان وأين كان ومع مَنْ كان؛ زالَتِ الوحشةُ وحصلَتِ الألفةُ، ولو خالفك فإنَّه يخالفك ويعذرك، والجاهلُ الظالم يخالفك بلا حُجَّةٍ، ويكفِّرك أو يبدِّعك بلا حُجَّةٍ، وذنبُك رغبتُك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة؛ فلا تغترَّ بكثرةِ هذا الضرب؛ فإنَّ الآلاف المؤلَّفةَ منهم لا يُعْدَلُونَ بشخصٍ واحدٍ مِنْ أهل العلم، والواحد مِنْ أهل العلم يُعْدَلُ بمِلْءِ الأرض منهم»(٢٣).

ثالثًا: وإنَّ مِنْ عجيبِ ما يراهُ القارئُ مِنْ تسويدِ هذا المتطاوِلِ المغرور: ردَّه الاستدلالَ بحديث: «إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا ـ وَقَالَ مَرَّةً: أَنْكَرَهَا ـ كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا»(٢٤) بقوله:

«(أوَّلًا): إنَّ الحديث دلَّ على أنَّ مَنْ كَرِهَ المعصيةَ وأنكرها بقلبه، ولم يكن فاعلًا لها متلبِّسًا بها؛ كمَنْ غاب عنها، والدارسُ أو المدرِّسُ أو العاملُ في أماكن الاختلاط متلبِّسٌ بالمعصية فاعلٌ لها؛ فواجبُه الإقلاعُ عنها بترك الاختلاط واعتزالِ أماكنه؛ فأين فهمُ فركوس وقواعدُ الاستدلالِ الصحيحةُ التي مَلَأَ الدنيا بادِّعائها صراخًا؟»

وهذا ممَّا يُنْبِئُ عن جهلٍ عريضٍ تَكلَّفَ فيه المغرورُ توجيهَ الحديثِ بما هو معلومٌ فسادُه لدى الجميع؛ لأنه توجيهٌ بالهوى بعيدٌ عمَّا نصَّ عليه شُرَّاحُ الحديث؛ لأنه لو سَلَّمْنا له ـ جدلًا ـ مضمونَ فهمِه لَلَزِمَ إبطالُ دلالةِ الحديث مطلقًا؛ إذ إنَّ شهودَ المعصيةِ إنَّما يقتضي التلبُّسَ بالعصيان ويَستلزِمُه إِنْ لم يُنْكَرْ ولو بأضعفِ الإيمان ـ كما في الحديث(٢٥) ـ وإنَّما المرادُ: أنَّ مَنْ حَضَر مُنْكَرًا أو رآه وأنكره فهو مِثْلُ الذي لم يَرَ شيئًا؛ لأنه سَلِمَ بهذا الإنكارِ وذاك سَلِمَ بكونه ما رأى ـ كما أفاده الشيخ عبد المحسن العبَّاد حفظه الله(٢٦) ـ ويبيِّن المعنى محتوَى الجملةِ الثانية الحديثيةِ المعاكِسة لها: أنَّ «مَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا»: يدلُّ على أنَّ الرِّضا منه أنزله منزلةَ الشاهد في الإثم، وإذا كان الرِّضا عملًا قلبيًّا فإنه يُقابِله الإنكارُ وهو عملٌ قلبيٌّ أيضًا؛ فحَصَل المطلوبُ في عدمِ الاشتراط المذكورِ وبانَ عَوارُ صاحِبِه.

ويدلُّ على ما ذكَرْنا ما أجاد به الحافظُ ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ حيث يقول: «فمَنْ شَهِدَ الخطيئةَ فكَرِهَها بقلبه كان كمَنْ لم يشهدها إذا عَجَز عن إنكارها بلسانه ويدِه، ومَنْ غاب عنها فرضِيَها كان كمَنْ شَهِدها وقَدَرَ على إنكارها ولم يُنْكِرها؛ لأنَّ الرِّضا بالخطايا مِنْ أقبحِ المحرَّمات، ويفوت به إنكارُ الخطيئة بالقلب، وهو فرضٌ على كُلِّ مسلمٍ، لا يسقط عن أحَدٍ في حالٍ مِنَ الأحوال»(٢٧)، وبهذا قال السفارينيُّ ـ رحمه الله ـ أيضًا(٢٨). كما يُوضِّحه ـ بجلاءٍ ـ حديثُ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، قَالُوا: «أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟» قال: «لَا، مَا صَلَّوْا»(٢٩)، وفي روايةٍ: «فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ»(٣٠)، وهذا في حقِّ مَنْ لا يستطيع إنكارَه بيده ولا لسانِه فَلْيَكْرَهْهُ بقلبه ولْيَبرأ، قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «وفيه دليلٌ على أنَّ مَنْ عَجَز عن إزالةِ المُنْكَر لا يأثم بمجرَّد السكوت، بل إنَّما يأثم بالرِّضى به أو بأَنْ لا يكرهه بقلبه أو بالمتابَعة عليه»(٣١).

وأمَّا قولُه لامزًا شيخَنا ـ حفظه الله ـ: «فأين فهمُ فركوس وقواعدُ الاستدلالِ الصحيحةُ التي مَلَأَ الدنيا بادِّعائها صراخًا؟»، فيُنبئُ عن نفسيَّةٍ حاسدةٍ وطويَّةٍ حاقدةٍ تبخس المستحِقَّ حَقَّه، وتُشكِّك في صدقِ وأمانةِ ما ينقله الشيخُ ـ حفظه الله ـ مِنْ قواعدَ أصوليةٍ وفقهيةٍ، وبمثلِ هذا اللمزِ نزداد يقينًا بصِحَّةِ فراسة شيخِنا ـ حفظه الله ـ إذ قال: «ولا شكَّ أنَّ هذا الأمرَ يعكس بوضوحٍ عن نوعيةٍ أخلاقيةٍ متدنِّيةٍ عن المستوى المطلوب»(٣٢).

ويُظْهِرُ هذا اللَّمزُ وغيرُه ـ وهو كثيرٌ ـ حساسيَّةَ القوم تُجاهَ عِلْمٍ مِنْ مفاخرِ علوم المسلمين، وهو علمُ «أصول الفقه»، فإنَّهم لَمَّا أعياهم فهمُه أصولًا وأتعبهم تطبيقُه فروعًا؛ راحوا يزهِّدون فيه، ويحشدون جنودَهم الصائلةَ للتحذير منه؛ فتارةً يدَّعون النصحَ بعدم الإكثار منه، وتارةً يَلْمِزون المتمكِّنين فيه بأنَّهم يردُّون النصوصَ الصريحة بالقواعد المختلَف فيها، واللهُ المستعان.

وإنَّما يَعيبُ العلماءُ على مَنْ لا يُتقِنُ أصولَ الفقه ويَعدُّونه مَنْقَصةً في حقِّه، حيث ذمَّ أبو يوسفَ ـ رحمه الله ـ مُخالِفَه لكونه لا يُحْسِنُ أصولَ الفقه(٣٣)، وقال شيخ الإسلام ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «وإنَّما يَغْلَطُ هنا مَنْ لم يُحْكِم دلالاتِ الألفاظِ اللُّغوية، ولم يُميِّزْ بين أنواع أصول الفقه السمعية، ولم يتدرَّب فيما عُلِّقَ بأقوال المكلَّفين مِنَ الأحكام الشرعية»(٣٤).

فحُقَّ للشيخ ـ حفظه الله ـ أَنْ يتمثَّلَ بقولِ مَنْ قال:

تَعَجَّبْتُ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ
وَأَخَّرَنِي دَهْرِي وَقَدَّمَ مَعْشَرًا

 

فَمَا أَحَدٌ مِنْ أَلْسُنِ النَّاسِ يَسْلَمُ
عَلَى أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَأَعْلَمُ

رابعًا: أمَّا كلامُه بخصوص القاعدة التي ذَكَرها الشيخُ في قوله: «مفسدة الفتنة مغمورةٌ في جَنْبِ مصلحة العبادة مِنْ جهةٍ ثانيةٍ؛ إذ: «جِنْسُ المَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ المَنْهِيِّ عَنْهُ»»(٣٥) فجوابُه ـ كما استفَدْناه مِنْ شيخنا أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس حفظه الله ـ أنَّ القواعد المُحْكَمَةَ في باب المصالح والمفاسد على أربع قواعدَ كما بيَّنها العزُّ بنُ عبد السلام السُّلَمِيُّ ـ رحمه الله ـ في «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» وهي:

ـ إذا تعارضَتْ مفسدتان رُوعِيَ أعظمُهما ضررًا بارتكاب أخفِّهما؛ لأنَّ مباشَرةَ الحرام لا تجوز إلَّا للضرورة، ولا ضرورةَ في حقِّ الزيادة.

ـ وإذا تعارضَتْ مصلحتان فيُؤْخَذُ بأعلاهما مصلحةً.

ـ وإذا تعارضَتْ مصلحةٌ ومفسدةٌ فدَرْءُ المفسدةِ ودفعُها مُقدَّمٌ في الغالب.

ـ وإذا تعارضَتْ مصلحةٌ ومفسدةٌ وكانَتِ المفسدةُ مغمورةً في جَنْبِ المصلحة فتُقَدَّمُ المصلحةُ لكونها غالبةً؛ إذ الغالبُ مُقدَّمٌ على النادر.

وهذه في تعارُضِ المصالح والمفاسد على وجهٍ لا يمكن فيه انفكاكُ أحَدِهما عن الآخَر، وقد بيَّنها العزُّ بنُ عبد السَّلام السُّلَمِيُّ ـ رحمه الله ـ بقوله: «إذا اجتمعَتْ مصالحُ ومفاسدُ: فإِنْ أمكن دفعُ المفاسدِ وتحصيلُ المصالحِ فَعَلْنا ذلك، وإِنْ تَعذَّرَ الجمعُ: فإِنْ رَجَحَتِ المصالحُ حَصَّلْناها ولا نُبالي بارتكاب المفاسد، وإِنْ رَجَحَتِ المفاسدُ دفَعْناها ولا نُبالي بفوات المصالح»(٣٦).

هذا، والقواعد في تغليبِ جانِبِ الحرمة ودرءِ مفسدتها إنَّما يكون إذا تَعارضَ دليلٌ يقتضي التحريمَ وآخَرُ يقتضي الإباحةَ؛ فيُقدَّمُ دليلُ التحريم ـ على الأصحِّ ـ تغليبًا للتحريم ودرءًا للمفسدة؛ لعنايةِ الشرع بترك المنهيَّات على فعلِ المُباحات؛ فهو تغليبٌ لجانب الحرمة على جانب الحلال، ومِنْ هذا القبيلِ سفرُ المرأة للحجِّ، فهل مِنْ شَرْطِ سَفَرِها المَحْرَمُ أم لا؟

والعلماء يختلفون بين مَنْ يَشترِطُه وهو مذهبُ أبي حنيفة وأحمد، ومَنْ لا يَشترِطُه بل اشترط الأمنَ على نفسها وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وروايةٌ عن أحمد، وهذا القول مرويٌّ عن عائشةَ وابنِ عُمَرَ وابنِ الزُّبير وابنِ سيرينَ والأوزاعيِّ وداودَ الظاهريِّ وغيرهم.

وعلى المذهب الأخير ـ وبغضِّ النظر عن الراجح ـ فليس في الاستدلال به أيُّ متمسَّكٍ مِنْ دلالةٍ أو حُجَّةٍ، بل بالعكس: إنَّ مِنْ أدلَّتهم أنه سفرٌ واجبٌ لا يُشترَطُ له المَحْرَمُ: كالمسلمةِ إذا تخلَّصَتْ مِنْ أيدي الكُفَّار، وكالسفر لحضور مجالسِ التحكيم لئلَّا يضيعَ حقُّها، وكالحُكم عليها بالتغريب وهو النفيُ عن البلد الذي وقعَتْ فيه جنايةُ الزِّنا.

أمَّا على مذهبِ مَنْ يَشترِطُ المَحْرَمَ فهو داخلٌ في الاستطاعة، ولا يَلْزَمُها الحجُّ إذا فقدَتْ شَرْطَه؛ وعليه فلا تَعارُضَ بين المقتضي والمانع، وإذا سَلَّمْنا التعارضَ ـ جدلًا ـ فهو تعارُضٌ بين الحرمة والحلال؛ فيُقَدَّمُ فيه المانعُ على المقتضي كما تنصُّ عليه قواعدُ الباب: «إِذَا تَعَارَضَ المَانِعُ وَالمُقْتَضِي يُقَدَّمُ المَانِعُ، إِلَّا إِذَا كَانَ المُقْتَضِي أَعْظَمَ».

وإنَّما مسألتُنا في حالةِ تعارُضِ الواجب والمحرَّم؛ فإنه تُراعى مصلحةُ الواجب: كالمرأة يَحْرُمُ عليها سَتْرُ وجهها في الإحرام، ولا يمكن إلَّا بكشفِ شيءٍ مِنَ الرأس، وسَتْرُ الرَّأسِ واجبٌ في الصلاة، فإذا صَلَّتْ راعَتْ مصلحةَ الواجب، والهجرةُ على المرأة مِنْ بلاد الكُفَّار واجبةٌ وإِنْ كان سفرُها وَحْدَها دون مَحْرَمٍ حرامًا(٣٧)، والمضطرُّ يجب عليه أكلُ الميتة وإِنْ كانَتْ حرامًا، ونحو ذلك.

وكما يرى المُنْصِف، فإنَّ الرجل خَلَط في المسألةِ خَلْطَ البطِّ على الشطِّ.

ثمَّ إنه مِنْ ناحيةٍ أخرى: هل يُلْزِمُ سعيد بنُ دعَّاسٍ المُتَفَيْقِهُ المرأةَ بحَجَّةِ الإسلام إذا توفَّرَتْ لها شروطُ الاستطاعة بما فيها المَحْرَمُ؟ أم يَشترِطُ خُلُوَّ مسلكِ الحجِّ مِنَ الاختلاط شرطًا إضافيًّا في الحجِّ، سواءٌ كان الاختلاطُ في قاعات الانتظار أو على متنِ الطائرة، أو عند طابوراتِ تقديم جواز السفر، أو في الحافلة، أو في المشاعر؟ أم أنه يُجيزُه للضرورة والحاجةِ الشديدة؟! وهل يخرج أبطالُ الحجُّوريِّ الدمَّاجيِّ مِنْ عموم النهي عن الاختلاط؟ أم لهم مسوِّغٌ مِنَ الضرورة؟ أفيدونا بحقٍّ وأمانٍ.

هكذا نَزَل جوابُ الإدارة ردًّا على ظلمِ المتشبِّعِ بما لم يُعْطَ؛ فقابلَتْ عدوانَه بعدوانٍ عادلٍ؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ [الشورى: ٤٠]، وقولِه تعالى: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ [البقرة: ١٩٤]، وما جزاءُ مَنْ يبغي على مَنْ يفوقه في الرُّتَبِ والكمال إلَّا أَنْ يَصْدُقَ فيه قولُ القائل:

قَضَى اللهُ أَنَّ البَغْيَ يَصْرَعُ أَهْلَهُ

 

وَأَنَّ عَلَى البَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ

وقولُ الآخَر:

جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضًا رُمْحَهُ

 

إِنَّ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحْ

هذه الفئة الحجُّورية الدَّمَّاجية المتعالمة لم يُمْعِنوا في العلم ويتدرَّجوا مِرْقاتَه، ولا أصابوا حظًّا مِنَ الصناعة العلمية سوى تمويهاتٍ على العوامِّ، ولا تَمتَّعوا بجميل الأدب وحُسْنِ الطبائع، بل أُصِيبوا في عُمْقِ أخلاقهم وسيرتهم.

وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلاَقِهِمْ

 

فَأَقِمْ عَلَيْهِمْ مَأْتَمًا وَعَوِيلاَ

ورحم اللهُ الإمامَ الشوكانيَّ الذي ذَكَر مِنْ محاسنِ كلامِ «عليِّ بن قاسم حنش» الذي تَرْجَمَ له، حيث بيَّن أنَّ منشأ الفِتَنِ مِنَ الناشئة في الدِّين، فقال ـ رحمه الله ـ: «ومِنْ محاسنِ كلامه الذي سمِعْتُه منه: الناسُ على طبقاتٍ ثلاثٍ:

فالطبقة العالية: العُلَماءُ الأكابر، وهُمْ يعرفون الحقَّ والباطل، وإِنِ اختلفوا لم ينشأ عن اختلافهم الفِتَنُ؛ لعِلْمِهم بما عند بعضهم بعضًا.

والطبقة السافلة: عامَّةٌ على الفطرة، لا ينفرون عن الحقِّ، وهُمْ أتباعُ مَنْ يقتدون به: إِنْ كان مُحِقًّا كانوا مِثْلَه، وإِنْ كان مُبْطِلًا كانوا كذلك.

والطبقة المتوسِّطة: هي منشأ الشَّرِّ وأصلُ الفِتَن الناشئةِ في الدِّين، وهُمُ الذين لم يُمْعِنوا في العلم حتَّى يَرْتَقوا إلى رتبة الطَّبقة الأولى، ولا تركوه حَتَّى يكونوا مِنْ أهل الطبقة السافلة؛ فإنَّهم إذا رَأَوْا أحَدًا مِنْ أهل الطبقة العليا يقول ما لا يعرفونه ممَّا يُخالِف عقائدَهم التي أوقعهم فيها القصورُ؛ فَوَّقُوا إليه سهامَ التقريع، ونسبوه إلى كُلِّ قولٍ شنيعٍ، وغيَّروا فِطَرَ أهلِ الطبقةِ السفلى عن قَبُولِ الحقِّ بتمويهاتٍ باطلةٍ؛ فعند ذلك تقوم الفتنُ الدينية على ساقٍ»(٣٨).

وقد سُئِل شيخُنا أبو عبد المعزِّ ـ حفظه الله ـ في إحدى حلقاته بعد صلاة الصبح عن النموذج الحجُّوريِّ الدَّمَّاجيِّ الحاليِّ الذي يُرَادُ فرضُه مسلكًا تربويًّا للمنهج السلفيِّ، مع اغترار الناشئة ـ عندنا في الجزائر ـ بهم مِنْ جهةِ أنهم يحفظون القرآنَ والمتون والأشعار، ويدرسون عِدَّةَ كُتُبٍ ورسائلَ في ظرفٍ قصيرٍ كالأسبوع ونصف الشهر.

فأجاب ـ حفظه الله ـ: «إنَّ أسباب سعادة الأُمَّة ونموِّها واستقرارِ دولتها وبقاءِ حُكمها تكمن في الأخلاق التي شَرَعها اللهُ لعباده ونوَّه بها، ودَعَا إلى التربية على الخُلُق الحَسَنِ وتنميتِه في نفوس المسلمين، وقد بَعَث اللهُ تعالى نبيَّه لإتمام مكارم الأخلاق التي يستقيمون بها، وعليها تقوم دولتُهم كما قال الشاعر:

وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ

 

فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا

ومِنْ جماع حُسْنِ الخُلُق مع الناس: بذلُ المعروف قولًا وفعلًا، وكفُّ الأذى قولًا وفعلًا، وقد جاء في الحديث: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»(٣٩)، وقـال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ»(٤٠)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أيضًا ـ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ»(٤١).

وإذا كان الإسلام يدعو إلى أسبابِ سعادة الأُمَّة وقيامِ دولتها وحُكمِها بالأخلاق، وجَعَلَ البِرَّ يُطْلَقُ على مَجامعِ حُسْنِ الخُلُقِ كما في الحديث: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ»(٤٢)؛ فكيف يكون مَنْ فَقَدَ القِيَمَ الأخلاقية والمعاييرَ الأدبية مَثَلًا تربويًّا يُحتذى به، وتَعكس قدوتُه صفاءَ المنهج السلفيِّ القويم؟!

أمَّا تزويد النفس بحلقاتٍ مكثَّفةٍ فمتوقِّفٌ على نوعيةِ الشيخ المربِّي وكيفيةِ بلورةِ هذه العلومِ وصقلِها في أذهان الطلبة، وإذا كان اللازمُ باطلًا فالملزومُ مِثْلُه، والمعلومُ أنَّ مَنْ أتى العِلْمَ بالكُلِّية في ظرفٍ قصيرٍ مِنْ غيرِ لَقاحٍ له فَهَشٌّ، سُرْعانَ ما يتخلَّى عن صاحِبِه، وقد قِيلَ: «لَا تُكَابِرِ الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ أَوْدِيَةٌ، فَأَيَّهَا أَخَذْتَ فِيهِ قُطِعَ بِكَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُ، وَلَكِنْ خُذْهُ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَلَا تَأْخُذِ الْعِلْمَ جُمْلَةً؛ فَإِنَّ مَنْ رَامَ أَخْذَهُ جُمْلَةً ذَهَبَ عَنْهُ جُمْلَةً، وَلَكِنِ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ مَعَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ»(٤٣)، وعن ابنِ المُنْكَدِرِ: «العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ»(٤٤).

وأمَّا إشباعُ النفسِ بحفظ العلوم الشرعية والأدبية، مع خُلُوِّها مِنَ الاسترشاد بالعمل بالمعاني التي حثَّ عليها الإسلامُ ونوَّه بها ودَعَا إليها ـ كما تَقدَّمَ ـ فإنَّ هذه العلومَ ـ حينئذٍ ـ حُجَّةٌ على العبد لا له، وهو حفظُ علمٍ لا رُوحَ له معه، بل هو بمنزلة الجسد الخراب، قال الشاعر:

وَلَيْسَ بِعَامِرٍ بُنْيَانُ قَوْمٍ     إِذَا أَخْلَاقُهُمْ كَانَتْ خَرَابَا».

انتهى كلامُ شيخنا.

وبعد هذا، فإنَّ الإدارة تطلب مِنْ سعيد بنِ دعَّاسٍ وأعوانه ومَنْ يقف وراءَه أَنْ يتوبوا إلى الله جميعًا، وأَنْ يتحلَّوْا بالأخلاق الفاضلة والآدابِ الرفيعة، ويُقْبِلوا على شيخنا أبي عبد المعزِّ ـ حفظه الله ـ بالاعتذار عمَّا صَدَر منهم ـ مِنْ غيرِ تكبُّرٍ أو عنادٍ أو تعنُّتٍ ـ كما اعتذر ـ مِنْ قبلُ ـ أبو محمَّدٍ عبد الحميد بنُ يحيى الحجُّوري عند مقابَلته لشيخنا في مَقَرِّ موقعه الرسميِّ؛ عسى أَنْ تنفعَهم استقامتُهم واعتذارُهم ﴿يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ ٨٩ [الشعراء].

وآخِرُ دعوانَا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ علَى نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه وإخوانِه إلى يومِ الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 

الجزائر في: ٠٤ جمادى الأولى ١٤٣١ﻫ
الموافق ﻟ: ١٨ أفريل ٢٠١٠م
.

 


(١) «المنهاج بترتيب الحِجاج» للباجي (١٠).

(٢) «الكافية في الجدل» للجويني (٥٣٢).

(٣) «الأخلاق والسِّيَر في مداواة النفوس» لابن حزم (٢٣).

(٤) في شريط: «تبيين الكذب والمَيْن».

(٥) انظر: المقال الموسوم بـ: «في نفي التعارض بين الأصل المحرم سدا للذريعة والاستثناء المبيح للمصلحة الراجحة» للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوسـ حفظه الله ـ.

(٦) «جامع بيان العلم» لابن عبد البرِّ (١/ ١٠٩).

(٧) «بهجة المجالس» لابن عبد البرِّ (٢/ ٤٣١).

(٨)   أخرجه أبو داود في «الملاحم» باب الأمر والنهي (٤٣٤٥)، والطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (١٧/ ١٣٩)، مِنْ حديث العُرْس بنِ عَميرة الكنديِّ رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في«صحيح الجامع» (٦٨٩) و«صحيح أبي داود» (٤٣٤٥).

(٩) انظر: «العواصم والقواصم» لابن الوزير (١/ ٧١).

(١٠) انظر: الحالة الثالثة من حالات الاختلاط في الكلمة الشهرية الموسومة بـ: «الصراط في توضيح حالات الاختلاط» للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوسـ حفظه الله ـ.

(١١) «غياث الأُمَم» للجويني (٣٤٥).

(١٢) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤٨٠).

(١٣) المصدر السابق (٢٩/ ٤٩).

(١٤) «جامع بيان العلم» لابن عبد البرِّ (١/ ١١٠).

(١٥) انظر علاماتِ الحمق في: «روضة العقلاء» لابن حبَّان (١٢٤).

(١٦) «لقاءات الباب المفتوح» للعثيمين، اللقاء رقم: (١٤٠).

(١٧) مِنْ شرحِ العثيمين ﻟ: «حلية طالب العلم» للشيخ بكر أبو زيد ـ رحمه الله ـ، الشريط الخامس الوجه الثاني.

(١٨) مِنْ شرح «سنن أبي داود» للعبَّاد، شريط رقم: (٩٢).

(١٩) تقصد: الشيخَ زيد بنَ محمد بن هادي المدخلي ـ رحمه الله ـ.

(٢٠) حول دراسة الأخوات في المعاهد الشرعية المختلطة في الجزائر، مِنْ شريط: «أسئلةٌ وإجاباتٌ بتاريخ: (١/ ٤/ ١٤٢٧)» للشيخ النجمي.

(٢١) «فتاوى عاجلةٌ لمنسوبي الصحَّة»، جمع: معوض عائض اللحياني (٣١ ـ ٣٢)، مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة.

(٢٢) سُئِل الشيخ صالح بنُ فوزان بنِ عبد الله الفوزان ـ حفظه الله ـ:

«ما حكمُ تحدُّث المرأة مع صاحِبِ مَحَلِّ الملابس أو الخيَّاط؟ مع الرَّجاء: توجيه كلمةٍ شاملةٍ إلى النساء».فأجـاب:

«تحدُّثُ المرأة مع صاحبِ المتجر التحدُّثَالذي بقدر الحاجة وليس فيه فتنةٌ لا بأسَ به، كانَتِ النساءُ تكلِّمُ الرِّجالَ في الحاجات والأمور التي لا فتنةَ فيها في حدود الحاجة.

أمَّا إِنْ كان مصحوبًا بضحكٍ أو بمباسَطةٍ أو بصوتٍ فاتنٍ فهذا محرَّمٌ لا يجوز، يقول اللهُ سبحانه وتعالى لأزواج نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ورضي اللهُ عنهنَّ: ﴿فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٣٢ [الأحزاب]، والقولُ المعروفِ ما يعرفه الناسُ وبقدر الحاجة، أمَّا ما زاد عن ذلك بأَنْ كان على طريق الضحك والمباسَطةِ أو بصوتٍ فاتنٍ أو غير ذلك، أو أَنْ تكشف وجهَها أمامَه أو تكشف ذراعَيْها أو كفَّيْها؛ فهذه كُلُّها محرَّماتٌ ومُنْكَراتٌ، ومِنْ أسباب الفتنة، ومِنْ أسباب الوقوع في الفاحشة.

فيجب على المرأة المسلمة التي تخاف اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ تتَّقيَ اللهَ، وأَنْ لا تـكلِّم الرجالَ بكـلامٍ يُطمِعُهم فيها ويفتن قلوبَهم، وتجنَّب هذا الأمر، وإذا احتاجَتْ إلى الذهاب إلى متجرٍ أو إلى مكانٍ فيه الرجال؛ فَلْتحتشِمْ ولْتستَتِرْ وتتأدَّبْ بآدابِ الإسلام، وإذا كلَّمَتِ الرِّجالَ فلْتُكلِّمْهُم الكلامَ المعروف الذي لا فتنةَ فيه ولا ريبةَ فيه». [«المنتقى مِنْ فتاوى الشيخ صالح بنِ فوزان» (٣/ ١٥٦، ١٥٧)].

(٢٣) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٣/ ٣٩٦).

(٢٤)      انظر: (الهامش ٨)

(٢٥) انظر الحديثَ الذي أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٤٩) مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ».

(٢٦) مِنْ شرح «سنن أبي داود» للعبَّاد، شريط رقم: (٤٨٩).

(٢٧) «جامع العلوم والحِكَم» لابن رجب (٣٢١).

(٢٨) انظر: «غذاء الألباب» للسفاريني (١٧٦).

(٢٩) أخرجه مسلمٌ في «الإمارة» (١٨٥٤).

(٣٠) المصدر نفسه.

(٣١) «شرح مسلم» للنووي (١٢/ ٢٤٣).

(٣٢) انظر:«الصراط في توضيح حالات الاختلاط» للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله.

(٣٣) انظر: «موسوعة الأمِّ» للشافعي (٨/ ١١٤).

(٣٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣١/ ١٠٤).

(٣٥) انظر:«الصراط في توضيح حالات الاختلاط» للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله  ـ.

(٣٦) «الفوائد في اختصار المقاصد» لابن عبد السلام (٤٧).

(٣٧) انظر: «المنثور في القواعد» للزركشي (١/ ١٣٢ ـ ١٣٣).

(٣٨) «البدر الطالع» للشوكاني (١/ ٤٧٣).

(٣٩) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» باب: المسلمُ مَنْ سَلِم المسلمون مِنْ لسانه ويده (١٠)، ومسلمٌ في «الإيمان» (٤٠)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما. وأخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٤١) مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.

(٤٠) أخرجه الترمذيُّ في «البرِّ والصلة» بابُ ما جاء في حُسْنِ الخُلُق (٢٠٠٢) مِنْ حديثِ أبي الدرداء رضي الله عنه. وأخرج أوَّلَه أبو داود في «الأدب» بابٌ في حُسْنِ الخُلُق (٤٧٩٩). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٥٣٥).

(٤١) أخرجه أبو داود في «الأدب» بابٌ في حُسْنِ الخُلُق (٤٧٩٨) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٤٢١).

(٤٢) أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة» (٢٥٥٣) مِنْ حديثِ النوَّاس بنِ سمعان رضي الله عنه.

(٤٣) «جامع بيان العلم وفضله»لابن عبد البرِّ (١/ ١٠٤).

(٤٤) «اقتضاء العلم العمل» للخطيب البغدادي (٣٦).