ترجمة الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

ترجمة الشيخ
عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ

هو الإمام المُصْلِحُ المُجدِّدُ الشيخُ عبدُ الحميد بنُ محمَّد المصطفى بنِ المكِّي بنِ باديسَ القسنطينيُّ الجزائريُّ، رئيسُ جمعيةِ العُلَماءِ المسلمين بالجزائر، ورائدُ النهضةِ الفكرية والإصلاحية، والقدوةُ الروحيةُ لحربِ التحرير الجزائرية.

وُلِد بقسنطينة سنة: (١٣٠٧ﻫ) وَسَط أسرةٍ مِنْ أَكْبَرِ الأُسَرِ القسنطينية، مشهورةٍ بالعلم والفضل والثراء والجاه، عريقةٍ في التاريخ، يَمْتَدُّ نَسَبُها إلى المُعِزِّ بنِ باديس الصنهاجيِّ؛ فهو في مُقابِلِ اعتزازِه بالعروبة والإسلام لم يُخْفِ أصلَه الأمازيغيَّ، بل كان يُبْدِيهِ ويُعْلِنُه، ولعلَّ مِنْ دواعي الافتخارِ به قيامَ سَلَفِه بما يحفظ الدِّينَ ويصون الشريعةَ؛ فقَدْ كان جَدُّه الأوَّلُ يُناضِلُ الإسماعيليةَ الباطنية وبِدَعَ الشيعةِ في المغربِ الإسلاميِّ؛ فصارَ خَلَفًا له في مُقاوَمةِ التقليد والبِدَعِ والحوادث، ومُحارَبةِ الضلالِ والشركيَّات.

وقد أَتَمَّ حِفْظَ القرآنِ الكريم في أوَّلِ مَراحِلِ تَعَلُّمِه بقسنطينةَ في السنةِ الثالثةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِه على يد الشيخ «محمَّد المَدَّاسي»، وقُدِّمَ لصلاةِ التراويح بالناس على صِغَرِه، وأَخَذَ مَبادِئَ العربيةِ ومَبادِئَ الإسلامِ على يد شيخه: «حَمدان لُونِيسي»، وقد أَثَّرَ فيه القرآنُ الكريمُ وهزَّ كِيانَه، ليُكرِّسَ فيه بعد ذلك رُبُعَ قرنٍ مِنْ حياتِه في السعي لإرجاعِ الأمَّةِ الجزائرية إلى هذا المَصْدَرِ والنبعِ الربَّانيِّ بما يحمله مِنْ دعوةٍ توحيديةٍ وهدايةٍ أخلاقيةٍ، وهو طريقُ الإصلاحِ والنهوضِ الحضاريِّ.

وفي سنة: (١٣٢٦ﻫ) الْتَحَق الشيخُ عبد الحميد بجامعِ الزيتونة بتونس، فأخَذَ عن جماعةٍ مِنْ كِبارِ عُلَمائها الأَجِلَّاء، وفي طليعتهم زعيمُ النهضةِ الفكرية والإصلاحية في الحاضرة التونسية العلَّامةُ: «محمَّد النخلي القيرواني» المتوفَّى سنة: (١٣٤٢ﻫ)، والشيخ: «محمَّد الطاهر بن عاشور» المتوفَّى سنة: (١٣٩٣ﻫ)، فضلًا عن مُرَبِّينَ آخَرين مِنَ المَشايخِ الذين كان لهم تأثيرٌ في نُمُوِّ استعداده، وتَعهَّدوهُ بالتوجيه والتكوين ﻛ: البشير صفر، وسعد العياض السطايفي، ومحمَّد بن القاضي وغيرِهم، وقد يسَّر اللهُ له في هذه الفترةِ الاطِّلاعَ على العلوم الحديثة، وعلى ما يَجْري في البلدان العربية والإسلامية مِنَ التغيُّرات السياسية والتحوُّلات الدينية مثل: حركة «جمال الدين الأفغاني»(١) و«محمَّد عَبْدُه»(٢) و«محمَّد رشيد رضا»(٣) في مصر، و«شَكِيب أَرْسَلان»(٤) و«الكواكبي»(٥) في الشام، وغيرهم ممَّن عرفوا بالأدب والعلمِ وإرادةِ إصلاحِ أُمَّةِ الإسلام؛ فكان لهذا المُحيطِ العلميِّ والأدبيِّ والبيئةِ الاجتماعية فضلًا عن المُلازَماتِ المُسْتَمِرَّةِ الأثرُ البالغُ في تكوينِ شخصيَّتِه ومِنهاجِه في الحياة.

وبعد تخرُّجه وتأهيلِه بشهادةِ التطويع سنة: (١٣٣٠ﻫ) عادَ مِنْ تونس مُتأهِّبًا بطموحٍ قويٍّ للتفرُّغ للتدريس المُتمثِّلِ ـ في بدايته ـ في عَقْدِ حَلَقاتٍ دراسيةٍ بالجامع الكبير، غيرَ أنَّ صعوباتٍ واجَهَتْه في بدايةِ نشاطه العلميِّ حالَتْ دون تحقيقِ طموحِه وآمالِه.

وبعد طُولِ تأمُّلٍ رأى أنَّ مِنَ المُفيدِ ـ تزامنًا مع موسم الحجِّ ـ أَنْ يُؤَدِّيَ الفريضةَ مُغْتنِمًا الفرصةَ في رحلته المشرقية للاتِّصال بجماعةِ العُلَماءِ مِنْ مُخْتَلَفِ أنحاءِ العالَمِ الإسلاميِّ؛ الأمرُ الذي يَسْمَحُ له بالاحتكاك المُباشِرِ بهم وتَبَادُلِ الرأي معهم، والتعرُّفِ على مَواقِعِ الإصلاح الدينيِّ، فضلًا عن الاطِّلاع على حقيقةِ الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدةِ في المشرق العربيِّ؛ وفي أثناءِ وجوده بالحجاز حَضَرَ دروسَ العُلَماءِ الوافدين إلى هذه البِقاعِ المُقدَّسةِ مِنْ مُخْتَلَفِ البلدان كالشيخ: «حسين الهندي» الذي نَصَحَهُ بالعودة إلى الجزائر لاحتياجها إلى عِلْمِه، وقد قدَّمه بعضُ الشيوخ الذين كانوا يعرفون مُسْتواهُ لإلقاءِ دروسٍ بالمسجد النبويِّ، وقد تَعرَّفَ على كثيرٍ مِنْ شبابِ العائلات الجزائريةِ المُهاجِرة، مثل: «محمَّد البشير الإبراهيمي» المتوفَّى سنة: (١٣٨٥ﻫ)(٦).

وقد استفاد الشيخ عبد الحميد بنُ باديس ـ رحمه الله تعالى ـ مِنْ مُخْتَلَفِ مَدارِسِ الإصلاح الدينيِّ بالمشرق التي ظهرَتْ في العالَمِ الإسلاميِّ على يد الشيخ «محمَّد ابنِ عبد الوهَّاب»(٧) المتوفَّى سنة: (١٢٠٦ﻫ)، والذين تَأثَّروا بدعوته كالأمير الصنعانيِّ المتوفَّى سنة: (١١٨٢ﻫ)، والإمامِ: «محمَّد بنِ عليٍّ الشوكانيِّ» المتوفَّى سنة: (١٢٥٠ﻫ)، و«محمَّد رشيد رضا» المتوفَّى سنة: (١٣٥٤ﻫ) وغيرِهم؛ وليس التجديدُ والإصلاحُ الدينيُّ وليدَ العصرِ الحديث فحَسْبُ، وإنَّما يضربُ بجذوره في أغوار الماضي الإسلاميِّ العريق.

وبعد عودته إلى قسنطينة سنة: (١٣٣٢ﻫ) أَسْهَمَ في بَلْوَرَةِ الإصلاح الدينيِّ ميدانيًّا وتطبيقِ مَناهِجِه التربوية عمليًّا، وسَاعَدَهُ زُمَلاؤُه الأفاضلُ مِنَ العُلَماءِ الذين شَدُّوا عَضُدَه وقَوَّوْا زندَهُ؛ فكان تَعَاوُنُهم معه في هذه المَهَمَّةِ المُلْقاةِ على عاتِقِ الدُّعاةِ إلى الله تعالى منذ فجرِ النهضةِ دافعًا قويًّا وعاملًا فعَّالًا في انتشارِ دعوته وسُطُوعِ نَجْمِه وذُيوعِ صِيتِه؛ ومِنْ أمثالِ هؤلاء الذين آزَرُوهُ وسانَدُوهُ: الشيخُ العربي التبسِّي، والشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيِّب العُقْبِي، والشيخ مُبارَك الميلي وغيرُهم؛ كما ساعَدَهُ ـ أيضًا ـ الواقعُ الذي كانَتْ تمرُّ به الجزائرُ بين الحربين العالميَّتين: الأولى والثانية.

وقد شَرَعَ الإمامُ ابنُ باديس ـ رحمه الله تعالى ـ في العمل التربويِّ، وانتهج ـ في دعوته ـ مَنْهَجًا يُوافِقُ الإصلاحَ الدينيَّ في البُعد والغاية، وإِنْ كان له طابعٌ خاصٌّ في السلوك والعمل يقوم على ثلاثةِ مَحاوِرَ أساسيةٍ: يظهر أعلاها في إصلاح عقيدة الجزائريِّين بالدرجة الأولى، ببيانِ التوحيد الذي يُمثِّلُ عمودَ الدعوةِ السلفية، وما يُضادُّهُ مِنَ الشرك؛ ذلك لأنَّ التوحيد هو غايةُ إيجادِ الخَلْقِ وإرسالِ الرُّسُل، ودعوةُ المُجدِّدين في كُلِّ العصور والأزمان؛ لذلك كانَتْ دعوتُه قائمةً على أَخْذِ العقيدةِ مِنَ الوحيين وعلى فَهْمِ الأوَّلِين، والتحذيرِ مِنَ الشرك ومَظاهِرِه، ومِنْ بدعةِ التقليد الأعمى، ومِنْ عِلْمِ الكلام وجنايتِه على الأُمَّة؛ ذلك لأنَّ مِنْ أَهَمِّ أسبابِ ضَياعِ التوحيدِ: ابتعادَ الناسِ عن الوحي، وفُشُوَّ عِلْمِ الكلام والخوض فيه، واتِّباعَ طُرُقِ أهلِه الضالَّةِ عن سواءِ السبيل، ومَرَضَ الجمودِ الفكريِّ والركونِ إلى التقليد، والزعمَ بأنَّ باب الاجتهادِ قد أُغْلِقَ في نهايةِ القرن الرابع، حيث قال ـ رحمه الله ـ: «كما أُدْخِلَتْ على مَذْهَبِ أهلِ العلمِ بدعةُ التقليدِ العامِّ الجامدِ التي أماتَتِ الأفكارَ وحالَتْ بين طُلَّاب العلم وبين السُّنَّة والكتاب، وصيَّرَتْهما ـ في زَعْمِ قومٍ ـ غيرَ مُحْتاجٍ إليهما مِنْ نهايةِ القرن الرابع إلى قيامِ الساعة، لا في فقهٍ ولا استنباطٍ ولا تشريعٍ، استغناءً عنهما ـ زعموا ـ بكُتُبِ الفروع مِنَ المتون والمُخْتَصَرات؛ فأَعْرَضَ الطُّلَّابُ عن التفقُّه في الكتاب والسُّنَّةِ وكُتُبِ الأئمَّة، وصارَتْ مَعانِيها الظاهرةُ ـ بَلْهَ الخفيَّة ـ مجهولةً حتَّى عند كِبارِ المُتصدِّرين»(٨).

وقال ـ في مَعْرِضِ ذِكْرِ منهاج الخارجين عن منهاج السلف مِنَ المتكلِّمين والمتصوِّفة وغيرِهم ـ: «قلوبُنا مُعَرَّضةٌ لخطراتِ الوسواس بل للأوهام والشكوك؛ فالذي يُثبِّتُها ويَدْفَعُ عنها الاضطرابَ ويربطها باليقين هو القرآنُ العظيم، ولقد ذَهَبَ قومٌ مع تشكيكاتِ الفلاسفةِ وفُروضِهم، ومُماحَكاتِ المتكلِّمين ومُناقَضاتِهم؛ فما ازدادوا إلَّا شكًّا، وما ازدادَتْ قلوبُهم إلَّا مرضًا، حتَّى رَجَعَ كثيرٌ منهم في أواخِرِ أيَّامِهم إلى عقائدِ القرآن وأَدِلَّةِ القرآن؛ فشُفُوا بعدما كادوا كإمام الحرمين والفخر الرازيِّ»(٩).

وفي مَقَامٍ آخَرَ ـ حالَ ترجمته للعلَّامة محمَّد رشيد رضا ـ يقول ـ ـ رحمه الله ـ تعالى ـ: «دَعَاهُ شَغَفُه بكتابِ «الإحياء» إلى اقتناءِ شَرْحِه الجليل للإمام المرتضى الحُسَيْنِيِّ، فلمَّا طَالَعَهُ ورأى طريقتَه الأثرية في تخريجِ أحاديثِ «الإحياء»؛ فُتِحَ له بابُ الاشتغالِ بعلوم الحديث وكُتُبِ السُّنَّة، وتَخَلَّصَ مِمَّا في كتابِ «الإحياء» مِنَ الخطإ الضارِّ ـ  وهو قليلٌ ـ ولا سيَّما عقيدة الجبر والتأويلات الأشعرية والصوفية، والغلوّ في الزهد وبعضِ العبادات المُبْتَدَعة»(١٠).

وقال ـ أيضًا ـ: «نحن ـ مَعْشَرَ المسلمين ـ قد كان مِنَّا للقرآنِ العظيمِ هجرٌ كثيرٌ في الزمان الطويل وإِنْ كنَّا به مؤمنين، بَسَطَ القرآنُ عقائدَ الإيمانِ كُلَّها بأَدِلَّتِها العقليةِ القريبةِ القاطعة، فهجَرْناها وقُلْنا: تلك أَدِلَّةٌ سمعيةٌ لا تُحَصِّلُ اليقينَ؛ فأخَذْنا في الطرائقِ الكلاميةِ المُعقَّدة، وإشكالاتِها المُتعدِّدة، واصطلاحاتِها المُحْدَثة؛ مِمَّا يُصَعِّبُ أَمْرَها على الطلبةِ فضلًا عن العامَّة»(١١).

لذلك ظهَرَتْ عنايتُه الأكيدةُ بتربيةِ الجيلِ على القرآن وتعليمِ أصول الدِّين وعقائدِه مِنَ الآياتِ القرآنية والأحاديثِ النبوية؛ إذ كان همُّه تكوينَ رجالٍ قرآنيِّين يُوَجِّهون التاريخَ ويُغيِّرون الأُمَّةَ، وقد تَجَلَّى ذلك في بعضِ مَقالاتِه حيث يقول ـ رحمه الله ـ: «فإنَّنا ـ والحمدُ لله ـ نُرَبِّي تلامذتَنا على القرآن مِنْ أوَّلِ يومٍ، ونُوَجِّهُ نُفُوسَهم إلى القرآنِ في كُلِّ يومٍ...».

أمَّا المحور الثاني فيَتمثَّلُ في إصلاحِ عقلية الجزائريِّين، وذلك بإصلاحِ العقول بالتربية والتعليم؛ لتكوينِ أجيالٍ قائدةٍ في الجزائر، تعمل على بَعْثِ نهضةٍ شاملةٍ تخرج بها مِنْ حالةِ الجمود والركود إلى الحيوية والنشاط، وقد كان يرى أنَّ تحقيقَ هذه النهضةِ المنشودةِ يَتوقَّفُ ـ بالدرجة الأولى ـ على إصلاح الفرد الجزائريِّ وتكوينِه مِنَ الناحية الفكرية والنفسية.

والمحور الثالث يظهر في إصلاح أخلاق الجزائريِّين، ذلك الميدان الذي تَدَهْوَرَ كثيرًا نتيجةً لفسادِ العقول وفسادِ العقيدة الدينية، وقد كانَتْ عنايتُه به بَالِغةً تمثَّلت في تطهيرِ باطنِ الفردِ الذي هو أساسُ الظاهر، وتهذيبِ النفوس وتزكيتها، وإنارةِ العقول، وتقويمِ الأعمال، وإصلاحِ العقيدة؛ حتَّى يعملَ الفردُ على تغييرِ ما بنَفْسه لكي يُغيِّرَ اللهُ ما به مِنْ سوءٍ وانحطاطٍ؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ[الرعد: ١١].

هذا، وقد اعتبر الشيخُ عبد الحميد بنُ باديس أنَّ سبيل النجاةِ والنهوضِ يكمن في الرجوع إلى فِقْهِ الكتابِ والسُّنَّةِ وعلى فَهْمِ السلفِ الصالح؛ ذلك لأنَّ عُلَماءَ السلفِ إِنِ اتَّفقوا فاتِّفاقُهم حُجَّةٌ قاطعةٌ، وإِنِ اختلفوا فلا يجوز لأَحَدٍ أَنْ يخرج عن أقوالهم، وفي هذا المضمونِ يقول الشيخُ ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «لا نجاةَ لنا مِنْ هذا التِّيهِ الذي نحن فيه، والعذابِ المُنوَّعِ الذي نَذُوقُه ونُقاسِيهِ، إلَّا بالرجوع إلى القرآن: إلى عِلْمِه وهَدْيِه، وبناءِ العقائد والأحكام والآداب عليه، والتفقُّهِ فيه وفي السُّنَّةِ النبويةِ: شرحِه وبيانِه، والاستعانةِ على ذلك بإخلاصِ القصد، وصحَّةِ الفهم، والاعتضادِ بأنظار العُلَماءِ الراسخين، والاهتداءِ بهَدْيِهم في الفهم عن ربِّ العالَمِين»(١٢).

لذلك كان الإسلامُ بشموله ـ في نَظَرِه ـ أَوْسَعَ مِنْ أَنْ يُتَرْجِمَهُ مذهبٌ فقهيٌّ، وأَكْبَرَ مِنْ أَنْ تُمثِّلَه مجموعةٌ مِنَ المَذاهِبِ الفقهية وغيرِها، فضلًا عن أَنْ تُمثِّلَه وجهاتُ نَظَرِ فقيهٍ واحدٍ، وليس معنى ذلك إلغاءَ المَذاهِبِ الفقهية، وإنما يكون مفهومُ الرجوعِ إلى الكتاب والسنَّةِ بإعمالهما كمعيارٍ لِمَا يُقْبَلُ مِنَ الأقوال وما يُرَدُّ منها: فإِنْ وافَقَتِ القرآنَ والسنَّةَ الثابتةَ الصحيحةَ وعَمَلَ السلفِ قُبِلَتْ، وما خَرَجَ عن هذه الأصولِ لم يَحْظَ بالقَبول.

وفي نصيحةٍ نافعةٍ ووصيَّةٍ جامعةٍ يقول ـ رحمه الله تعالى ـ: «اعْلَمُوا ـ جَعَلَكُمُ اللهُ مِنْ وُعَاةِ العلم، ورَزَقَكم حلاوةَ الإدراكِ والفهم، وجمَّلكم بعزَّةِ الاتِّباع، وجنَّبكم ذِلَّةَ الابتداع ـ أنَّ الواجب على كُلِّ مسلمٍ في كُلِّ مكانٍ وزمانٍ: أَنْ يَعْتقِدَ عَقْدًا يَتَشرَّبُهُ قلبُه، وتَسْكُنُ له نَفْسُه، ويَنْشرِحُ له صَدْرُه، ويَلْهَجُ به لسانُه، وتَنْبَنِي عليه أعمالُه: أنَّ دِينَ اللهِ تعالى ـ مِنْ عقائِدِ الإيمان، وقواعدِ الإسلام، وطرائقِ الإحسان ـ إنَّما هو في القرآنِ والسنَّةِ الثابتةِ الصحيحة وعَمَلِ السلفِ الصالحِ مِنَ الصحابةِ والتابعين وأتباعِ التابعين، وأنَّ كُلَّ ما خَرَجَ عن هذه الأصول، ولم يَحْظَ لديها بالقَبول ـ قولًا كان أو عملًا أو عَقْدًا أو احتمالًا ـ فإنَّه باطلٌ مِنْ أصله، مردودٌ على صاحِبِه، كائنًا مَنْ كان، في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ فاحْفَظوها واعْمَلوا بها؛ تهتدوا وتَرْشُدوا إِنْ شاءَ اللهُ تعالى»(١٣).

ولَمَّا رأى ـ رحمه الله ـ أنَّ الحَلَقاتِ العلميةَ في المؤسَّساتِ التربوية والدروسَ المسجدية لا تَفِي بنَشْرِ دعوته على نطاقٍ واسعٍ وشاملٍ، ولا تُحَقِّقُ غاياتِها الساميةَ المُسطَّرةَ لها، إلَّا بتعزيزها بالعمل الصَّحَفيِّ مع توفيرِ شروطِ نجاحِه بتأمينِ مطبعةٍ خاصَّةٍ له على وجهِ الامتلاك؛ أَقْبَلَ على تطبيقِ فكرته في سبيلِ الإصلاح وتجديدِ الدِّينِ بتأسيسِ أوَّلِ صحيفةٍ جزائريةٍ بالعربية وُسِمَتْ ﺑ «المُنْتَقِد» كمرحلةٍ مُعضِّدةٍ؛ قَصْدَ الدخولِ في التطبيق العمليِّ لمُقاوَمةِ المَناهِجِ العَقَديةِ والسلوكية التي كان يَنْشُرُها رجالُ التصوُّف(١٤) وأربابُ الطُّرُقية في الزوايا وأماكنِ الأضرحة والقبور، وقد تَغَلْغَلَ كثيرٌ مِنْ تلك الضلالاتِ والمُعْتقَداتِ الفاسدة في صفوف الدَّهْماءِ والعوامِّ وعند بعضِ الأوساط المُثقَّفة، وتَجَسَّدَ شِعارُها في عبارةِ: «اعْتَقِدْ ولا تَنْتَقِدْ»، وقد كان اختيارُه لعنوانِ صحيفته يهدف إلى القضاءِ على هذا الشعارِ أوَّلًا، وتحطيمِ فحواهُ كدعوةٍ ثانيًا، أي: تحذير الناسِ مِمَّا يحتويهِ الشعارُ مِنْ ضلالاتٍ ومَفاسِدَ: مبنًى ومعنًى، وإرادة التغيير مع الالتزام بالنقد الهادف ببيانِ الحقيقة بنزاهةٍ وصِدْقٍ وإخلاصٍ، غيرَ أنَّ هذه الصحيفةَ لم تُعَمَّرْ طويلًا وتَوَقَّفَتْ بسببِ المنع الصادرِ مِنْ قِبَلِ الحكومةِ الفرنسية بتحريضٍ مِنْ خصوم الدعوة والحقِّ.

لكنَّ هذا التوقُّفَ لم يَثْنِ عزيمةَ الشيخِ العلَّامة ابنِ باديس ـ رحمه الله ـ عن السعي إلى إصدارِ مجلَّةِ «الشهاب» خَلَفًا للمُنْتَقِد تعمل على نَفْسِ المبدإ والغاية، وتُؤدِّي رسالتَها النبيلةَ بكُلِّ صمودٍ، مُصدَّرةً في الغالبِ بآياتٍ مُفسَّرةٍ وأحاديثَ مشروحةٍ إلى غايةِ سنة: (١٣٥٨ﻫ).

وقد أَخَذَ الشيخُ العلَّامة ـ رحمه الله ـ يُكَثِّفُ عَمَلَه، ويُوَسِّعُ نشاطَه، ويُعَمِّقُ فكرتَه، مِنْ منبرِ المسجد والدروسِ المسجدية إلى منبرِ المَجَلَّة، إلى دعوةِ الأوساطِ السياسية المُخْتَلِفةِ إلى الاتِّحاد والتغيير نحو الأحسن للأُمَّة، مُجَسِّدًا طموحَه بتأسيسِ جمعيةِ العُلَماءِ المسلمين الجزائريِّين (سنة: ١٣٤٩ﻫ ـ ٥ ماي ١٩٣١م) برئاسته؛ فظَهَرَ دورُها الفعَّالُ في الإصلاح الدينيِّ والاجتماعيِّ على نطاقٍ واسعٍ، وقد تَبلوَرَ نهجُه الإصلاحيُّ في القضاء على التخلُّف ومَظاهِرِه، وتحذيرِ الأُمَّةِ مِنَ الشرك بمُخْتَلفِ أنواعه، وإزالةِ الجمودِ الفكريِّ، ومُحارَبةِ التقاليدِ والبِدَعِ المُنْكَرةِ والعادات الشركية المُسْتَحْكِمة، ومُقاوَمةِ الأباطيل والخرافات المُتَمَكِّنةِ مِنَ المُتَنَكِّرين للتوحيد مِنَ الصوفيِّين والقبوريِّين والطُّرُقية وغيرِهم، وذلك بتعريفِ الأُمَّةِ بدِينِها الحقِّ، ودعوتِها إلى العملِ بتعاليمه وأحكامه، والتحلِّي بفضائله وآدابه، والدعوةِ إلى النهضة والحضارة في إطارِ إصلاحِ الدِّينِ والمُجْتَمَع، وذلك بواسطةِ نشاطاتٍ مُخْتَلِفةٍ.

وكان للنشاط الصحفيِّ دورٌ بارزٌ ـ بصفته وسيلةً للسياسة والتهذيب ـ في تكوينِ القادة، وتوجيهِ الطاقات والجهودِ مُسلَّحةً بالعلم والمعرفة، وبَثِّ الوعيِ بين الأوساط الشعبية:

فأَسَّسَتِ الجمعيةُ صحيفةً أسبوعيةً «السنَّة المحمَّدية» (الصادرة بتاريخ: ٨ ذي الحجَّة ١٣٥١ﻫ).

ثمَّ خَلَفَتْها صحيفةُ «الشريعة المطهَّرة» (الصادرة بتاريخ: ٢٤ ربيع الأوَّل ١٣٥٢ﻫ).

ثمَّ تَلَتْها بعد مَنْعِها صحيفةُ «الصراط السويِّ» (الصادرة بتاريخ: ٢١ جمادى الأولى ١٣٥٢ﻫ)، وهذه الأخيرةُ ـ أيضًا ـ مَنَعَتْها الحكومةُ الفرنسيةُ أُسْوَةً بأخواتها.

ولكنَّ جمعيةَ العُلَماء لم تَلْبَثْ أَنْ أسَّسَتْ صحيفةَ «البصائر» (الصادرةَ بتاريخ: أوَّل شوَّالٍ سنة ١٣٥٤ﻫ)، حيث بَقِيَتْ هذه الصحيفةُ لسانَ حالِ الجمعية مُسْتَمِرَّةً في أداءِ رسالتها بالمُوازاةِ مع مجلَّةِ «الشهاب» التي ظلَّتْ مِلْكًا للشيخ ـ رحمه الله ـ ومُسْتَقِلَّةً عن الجمعية، حيث كان ينطق فيها باسْمِه الشخصيِّ لا بوصفه رئيسًا للجمعية؛ حفاظًا على مَصيرِ جمعيةِ العُلَماءِ وصحيفتِها التي استمرَّتْ بعد وفاته إلى غايةِ: (١٣٧٥ﻫ)، وإِنْ تَخَلَّلَ انقطاعٌ في سلسلتها الأولى عند اقترابِ الحرب العالمية الثانية.

وفي هذه المرحلةِ اتَّخذ الشيخُ عبد الحميد بنُ باديس شعارَ «الحقِّ، والعدل، والمُؤاخاةِ في إعطاءِ جميعِ الحقوقِ للَّذِين قاموا بجميعِ الواجبات»، رجاءَ تحقيقِ مَطالِبِ الشعب الجزائريِّ بطريقٍ سِلْميٍّ؛ ولكنَّه بعد عودةِ وَفْدِ المؤتمر مِنْ باريس سنة: (١٣٥٥ﻫ) اقتضَتْ طبيعةُ المرحلةِ الجديدةِ إزاحتَه واستبدالَه بشعارٍ آخَرَ وهو: «لِنَعْتَمِدْ على أَنْفُسِنا، ولْنَتَّكِلْ على الله»، تعبيرًا عن العزم على الكفاح وغَلْقِ القلوب على فرنسا إلى الأبد، والاستعدادِ للدخول في معركةٍ ضاريةٍ، كما عبَّر عن ذلك بقوله رحمه الله ـ مُخاطِبًا الشعبَ الجزائريَّ ـ: «...وإِنْ ضيَّعَتْ فرنسا فُرصتَها هذه فإنَّنا نقبض أَيْدِيَنا ونُغْلِقُ قلوبَنا إلى الأبد... واعْلَمْ أنَّ عَمَلَك هذا ـ على جلالته ـ ما هو إلَّا خُطْوَةٌ ووَثْبَةٌ وراءَها خُطُوَاتٌ وَوَثَبَاتٌ، وبعدها إمَّا الحياةُ وإمَّا المماتُ».

وهذه الحقيقةُ عبَّر عنها ـ أيضًا ـ في مَقالٍ آخَرَ سنة: (١٣٥٦ﻫ) بلفظِ: «المُغامَرةُ والتضحية هي طريقُ الكفاحِ والحربِ للخلاص مِنْ فرنسا»، وظَلَّ ابنُ باديس وَفِيًّا لهذا المَسْلَكِ الشموليِّ في مُواجَهتِه للاستعمار خلالَ كُلِّ سنواتِ نشاطِه السياسيِّ المُنْدَرِجِ في نشاطه العامِّ، إلى أَنْ تُوُفِّيَ مساءَ الثلاثاء ٨ ربيع الأوَّل ١٣٥٩ﻫ الموافق ﻟ: ١٦ أفريل ١٩٤٠م، ودُفِنَ بقسنطينة، تَغمَّدَهُ اللهُ برحمته وأَسْكَنَهُ فسيحَ جِنانه.

هذا، وقد عَمِلَ ابنُ باديس ـ خلالَ فترات حياته ـ على تقريبِ القرآنِ الكريم بين يَدَيِ الأُمَّة، مُفَسِّرًا له تفسيرًا سَلَفيًّا، سالكًا طريقَ رُوَّادِ التفسيرِ بالمأثور، مُعْتَمِدًا على بيانِ القرآن للقرآن وبيانِ السُّنَّة له، آخذًا في الاعتبارِ أصولَ البيانِ العربيِّ، كما كانَتْ عنايتُه فائقةً بالسُّنَّةِ المطهَّرةِ وبالعقيدةِ الصحيحةِ التي تخدمُ دعوتَه الإصلاحية؛ فوَضَعَ كتابَه: «العقائد الإسلامية مِنَ الآيات القرآنيةِ والأحاديثِ النبوية»(١٥)، على نَهْجِ القرآنِ في الاستدلال المُتَلائِمِ مع الفطرة الإنسانية، بعيدًا عن مَسْلَكِ الفلاسفة ومَنْهَجِ المتكلِّمين، وحارَبَ البِدَعَ والتقليدَ والشركَ ومَظاهِرَه والتخلُّف، ودَعَا إلى النهضة والحضارةِ في إطارِ إصلاحِ الدِّين والمُجْتَمَع، وقد سانَدَهُ عُلَماءُ أَفَاضِلُ في دعوته ومَهَمَّتِه النبيلة، كما ساعَدَتْه خبرتُه بعلوم العربية: آدابِها وقواعدِها؛ لذلك جاء أسلوبُه في مُخْتَلَفِ كتاباته سهلًا مُمْتَنِعًا، بعيدًا عن التعقيد اللفظيِّ، وكذا شِعْرُه الفيَّاض، هذا بغضِّ النظر عمَّا كان عليه مِنِ اطِّلاعٍ على المَذاهِبِ الفقهية المُخْتَلِفة ـ كما هو ملموسٌ في فتاويه المُتعدِّدة ـ فضلًا عن مَذْهَبِ مالكٍ ـ رحمه الله ـ، ومِنْ عِلْمٍ بالأصول، مُتَمَرِّسًا بأسلوبه ومُتَزَوِّدًا بقواعده، مع الإدراك الصحيح والفهم التامِّ.

تلك هي بعضُ الجوانبِ مِنْ حياته وشخصيته وسيرته مُخْتَصَرةً؛ فرغم الفترة الزمنية القصيرة نسبيًّا التي عاشَها ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ إلَّا أنَّ ما خلَّفه مِنْ كتاباتٍ مُهِمَّةٍ في الصُّحُفِ والمَجَلَّات والكُتُبِ القيِّمةِ كان له أثرٌ بالغٌ، ولا تَزالُ هذه الكتاباتُ والمَقالاتُ تُؤْخَذُ منها دروسٌ وَعِظَاتٌ للمُتأمِّل، وهي ـ حاليًّا ـ موضعُ اهتمامِ الباحثين داخِلَ القطرِ الجزائريِّ وخارِجَه، كُلُّ هذه الآثارِ أَحْيَتْ ذِكْرَه، وخَلَّدَتِ اسْمَه، وأكَّدَتْ عظمةَ شخصيَّتِه الفكرية، وريادتَه في النهضة والتجديدِ والإصلاح(١٦).



(١) هو جمال الدين محمَّدُ بنُ صفدر بنِ عليِّ بنِ محمَّدٍ الحُسَيْنيُّ الشيعيُّ الأفغانيُّ، كان واسِعَ الاطِّلاعِ في العلوم العقلية والنقلية، له رحلاتٌ طويلةٌ، نُصِّبَ عضوًا في مجلس المَعارِف، نَفَتْهُ الحكومةُ المصرية، ورُمِيَ بالانحراف في الدِّينِ وتسخيرِه لخدمةِ أعداءِ الإسلام ومُؤاخَذاتٍ أخرى، حيث كان رئيسًا لمَحْفَلِ «كوكب الشرق» الماسونيِّ، وفي باريس أَنْشَأَ مع رفيقه محمَّد عَبْدُه المصريِّ مَجَلَّةَ «العُرْوة الوُثْقى»: اتَّسَمَتْ مَقالاتُها بتقريب الإسلام إلى الحضارة الغربية والتفكيرِ الغربيِّ الحديث، ولم تُعَمَّرْ طويلًا. مِنْ آثارِه: «تاريخُ الأفغان». تُوُفِّيَ سنة: (١٣١٤ﻫ).

انظر ترجمته في: «مَشاهير الشرق» لزيدان (٢/ ٥٢)، «أعيان الشيعة» للعاملي (١٦/ ٣٣٦)، «أعلام الشيعة» لآغا بزرك (١/ ٣١٠)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (١/ ٥٠٢، ٣/ ٣٦٠)، «الاتِّجاهات الوطنية في الأدب المُعاصِر» لمحمَّد حسين (١/ ١٥٣، ٣٢٨).

(٢) هو محمَّد عَبْدُه بنُ حسن خير الله المصريُّ مِنْ آل التركماني، فقيهٌ متكلِّمٌ كاتبٌ صحفيٌّ سياسيٌّ، له رحلاتٌ، وأَنْشَأَ مَجَلَّةَ «العُرْوة الوُثْقى» مع جمال الدِّين الأفغانيِّ، عُيِّنَ قاضيًا ثمَّ مُفْتِيًا للدِّيار المصرية، وأُوخِذَ بانتهاجه ـ في نشاطه الدعويِّ ـ مَنْهَجَ التوفيقِ والتقارب بين الإسلام والحضارة الغربية، وغيرِها مِنَ المُؤاخَذات. مِنْ آثارِه: رسالةٌ في وَحْدَةِ الوجود، و«فلسفةُ الاجتماع والتاريخ»، و«شرحُ نَهْجِ البلاغة»، و«شرحُ البصائر النصيرية». تُوُفِّيَ سنة: (١٣٢٣ﻫ).

انظر ترجمته في: «مَشاهير الشرق» لزيدان (١/ ٢٨١)، «كنز الجوهر في تاريخ الأزهر» للزيَّاتي (١٦٤)، «الأعلام» للزركلي (٧/ ١٣١)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٣/ ٤٧٤)، «الاتِّجاهات الوطنية في الأدب المُعاصِر» لمحمَّد حسين (٣٢٨).

(٣) هو محمَّد رشيد بنُ علي رضا بنِ محمَّد القلموني اللبناني، البغداديُّ الأصل، جَمَعَ علومًا كثيرةً منها: التفسيرُ والحديثُ والتاريخُ والأدبُ وغيرُها، لَحِقَ بمحمَّد عَبْدُه بمصر وأَنْشَأَ مَجَلَّةَ «المَنار»، وجَعَلَ موضوعَها الأوَّليَّ ـ بحسب تصوُّرِه ـ الإصلاحَ الدِّينيَّ، وقد انتشرَتْ مَجَلَّتُه في العالَمِ الإسلاميِّ، كما أسَّسَ مدرسةَ الدعوةِ والإرشاد. له رحلاتٌ عديدةٌ استقرَّ آخِرَها بمصر، وانْتُخِبَ عضوًا بالمَجْمَعِ العلميِّ العربيِّ بدمشق، ورَغْمَ مكانتِه العلميةِ فعليه ـ مع الأسَفِ ـ جملةٌ مِنَ المُؤاخَذاتِ منها: تشكيكُه في أحاديثِ الدجَّال، وتشكيكُه في رَفْعِ عيسى عليه السلام بروحه وجَسَدِه، وطَعْنُه في مُعْجِزةِ انشقاقِ القمر، وطَعْنُه في كَعْبِ الأحبار، وتأييدُه لشيخه محمَّد عَبْدُه في جملةِ مُخالَفاتِه ومَواقِفِه.

لمحمَّد رشيد رضا تصانيفُ منها: «تفسير القرآن الحكيم» («تفسير المَنار») لم يُكْمِلْه، «الوحيُ المحمَّدي»، «الخلافةُ والإمامةُ الكبرى». تُوُفِّيَ بالقاهرة فجأةً سنة: (١٣٥٤ﻫ).

انظر ترجمته في: «الأعلام» للزركلي (٦/ ٣٦١)، «المُجدِّدون في الإسلام» للصعيدي (٥٣٩)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٣/ ٢٩٣)، «خزائن الكُتُبِ العربية» للطرازي (١/ ٣٤٦)، «الأدب العصري» لمحمَّد سليمان (١٢٦).

(٤) هو الأمير شكيب بنُ حمُّود بنِ الحسن أَرْسَلان اللبنانيُّ مِنْ عائلةٍ درزيَّةٍ، كان أديبًا شاعرًا ومُؤرِّخًا سياسيًّا، أَتْقَنَ عِدَّةَ لُغاتٍ أجنبيةٍ، وانْتُخِبَ عضوًا بالمَجْمَعِ العلميِّ العربيِّ بدمشق، له رحلاتٌ كثيرةٌ تَعرَّفَ خلالَها على قياداتٍ سياسيةٍ وشخصياتٍ وطنيةٍ ودينيةٍ. ألَّف عِدَّةَ مُصنَّفاتٍ منها: «لماذا تَأخَّرَ المسلمون؟»، و«حاضِرُ العالَمِ الإسلاميِّ»، و«الحُلَلُ السندسيةُ في الرحلة الأندلسية»، و«القولُ الفصلُ في رَدِّ العامِّيِّ إلى الأصل»، و«الارتساماتُ اللِّطافُ في خاطِرِ الحاجِّ إلى أَقْدَسِ مَطاف»، وديوانُ شعرٍ. تُوُفِّيَ ببيروت سنة: (١٣٦٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «الأعلام» للزركلي (٣/ ٢٥١)، «نزهة الألباب» للعامري (٢١٥)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (١/ ٨١٨)، «رُوَّاد النهضة الحديثة» لعبُّود (١١٠).

(٥) هو عبد الرحمن بنُ أحمد البهائي بنِ مسعود بنِ عبد الرحمن آل الموقت، المشهورُ بالكواكبيِّ، نسبةً إلى الكواكبية مَدْرَسةِ أجدادِه، وهو مِنْ أَبْرَزِ رجالِ العلمِ والسياسة في زمانه، كان يُلَقَّبُ بالسيِّد الفُراتيِّ، تَوَلَّى في شبابِه تحريرَ جريدةِ «الفُرَات»، فكان هو المُحرِّرَ العربيَّ والمُتَرْجِمَ التركيَّ، وفي خلالِ خمسِ سنواتٍ مِنْ حياتها أَصْدَرَ جريدةَ «الشهباء» ثمَّ جريدةَ «الاعتدال» مُنِعَتَا حكوميًّا، تَوَلَّى مَنْصِبَ القضاءِ كما أُسْنِدَتْ إليه وظائفُ حكوميةٌ وإداريةٌ مُخْتَلِفةٌ. نَشَرَ في جريدةِ «المؤيَّد» مَقالاتِه في الاستبداد. له مُصنَّفاتٌ منها: «أمُّ القُرى»، و«طبائعُ الاستبداد»، و«صحائفُ قريش»، و«العظمةُ لله». تُوُفِّيَ بمصر سنة: (١٣٢٠ﻫ).

انظر ترجمته في: «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٢/ ٧٢)، «مَشاهير الشرق» لزيدان (١/ ٣٢٢)، «رُوَّاد النهضة الحديثة» لعبُّود (٢٠١)، «الاتِّجاهات الوطنية في الأدب المُعاصِر» لمحمَّد حسين (٢٥٠)، «إيضاح المكنون» للبغدادي (٢/ ٧٧).

(٦) هو محمَّد البشير بنُ محمَّد السعدي بنِ عمر بنِ عبد الله بنِ عمر الإبراهيميُّ، أحَدُ أعضاءِ جمعيَّة العُلَماء المسلمين الجزائريِّين ورئيسُها بعد وفاةِ مُؤسِّسها ابنِ باديس ـ رحمه الله ـ، وعضوُ المجمع اللغويِّ بالقاهرة والمجمعِ العلميِّ بدمشق، وعضوُ مجمع البحوث الإسلاميَّة بالأزهر، يَرْتفِعُ نَسَبُه إلى إدريس بنِ عبد الله بن الحسن بنِ الحسن بنِ عليٍّ رضي الله عنهما، مُؤسِّسِ دولةِ الأدارسة بالمغرب الأقصى، كان ـ رحمه الله ـ عالِمًا فذًّا وإمامًا مِنْ أئمَّةِ السلفيَّة وأديبًا مُرَبِّيًا، ومُجاهِدًا مُصْلِحًا، شَمِلَتْ كتاباتُه قضايَا الوطنِ العربيِّ وهمومَ العالَمِ الإسلاميِّ. تُوُفِّيَ بالجزائر سنةَ: (١٣٨٥ﻫ).

انظر ترجمته في: مقالة للإبراهيمي تحت عنوان: «أنا» في: «مجلَّة مَجْمَع اللغة العربيَّة» (٢١/ ١٣٥)، «الأعلام» للزركلي (٧/ ٥٤)، مقالة الهاشمي التيجاني نَشَرَها بمجلَّة: «التهذيب الإسلامي» (ع: ٥، ٦ س/ ١)، «البشير الإبراهيمي، نضالُه وأدَبُه» لمحمَّد المهداوي، رسالة ماجستير بعنوان: «البشير الإبراهيمي أديبًا» قدَّمها السيِّد عبَّاس محمَّد بكُلِّيَّة الآداب ـ جامعة بغداد سنة: (١٩٨٣م)،  ومُؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٣٧٦).

(٧) هو أبو عليٍّ محمَّد بنُ عبد الوهَّاب بنِ سليمان بنِ عليٍّ التميميُّ النجديُّ، الإمامُ المُصْلِحُ والعلَّامةُ المُجدِّد، رائدُ النهضةِ العَقَديةِ في العصر الحديث، نَصَرَ السنَّةَ وقَمَعَ البدعةَ ودَعَا إلى التوحيدِ وتَرْكِ مَظاهِرِ الشركِ والوثنيةِ التي لوَّثَتْ حياةَ المسلمين العَقَدية. له مُصنَّفاتٌ منها: «كتابُ التوحيد»، و«أصولُ الإيمان»، و«ثلاثةُ الأصول»، و«مُخْتَصَرُ السيرةِ النبوية»، و«كَشْفُ الشُّبُهات». تُوُفِّيَ ـ رحمه الله ـ سنة: (١٢٠٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «المجد في تاريخ نجد» لابن بشر (١/ ٨٩)، «عُلَماء نجد» للبسَّام (١/ ٢٥)، «عقيدة الشيخ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب السلفية» للعبُّود (٦٥)، «منهج الإمام محمَّد بنِ عبد الوهَّاب في مسألة التكفير» للعقل (١٤)، «تعريف الخلف بمنهج السلف» للبريكان (٣٠١).

(٨) «الآثار» (٥/ ٣٨).

(٩) «مجالس التذكير مِنْ كلام الحكيم الخبير» (٢٥٧).

(١٠) «الآثار» (٣/ ٨٥).

(١١) «مجالس التذكير مِنْ كلام الحكيم الخبير» (٢٥٠).

(١٢) المصدر السابق (٢٥٢).

(١٣) «الآثار» (٣/ ٢٢٢).

(١٤) قد كان أوائلُ الصوفيةِ مُلْتَزِمين بالكتاب والسُّنَّة، غيرَ أنَّ كثيرًا مِنْ مُتأخِّرِيهم حادوا عن الطريق السويِّ وغَلَوْا في البِدَعِ والمُنْكَراتِ والانحرافاتِ في الفكر والسلوك.

انظر: «تلبيس إبليس» لابن الجوزي (٢١١) وما بعدها، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١١/ ١٨)، «مَدارِج السالكين» لابن القيِّم (١/ ١٣٨).

(١٥) وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا، تناوَلْتُه بالشرح والتَّعليق، وأضفَيْتُ عليه حُلَّةً مِنْ مزيدِ توضيحٍ، ووَسَمْتُ شرحي ـ كما يظهر على واجهة الكتاب ـ بـ «الحُلَل الذَّهبيَّة، شرح العقائد الإسلامية مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية».

(١٦) انظر ترجمته في: «مجالس التذكير» و«آثار الإمام عبد الحميد بنِ باديس ـ رحمه الله تعالى»، «مجلَّة مجمع اللغة العربية» (٢١/ ١٤٠) سنة: (١٩٦٦)، «مُذكِّرات توفيق المدني» (٢/ ١١)، «الشيخ عبد الحميد بنُ باديس والحركةُ الإصلاحيةُ السلفيةُ في الجزائر» و«الشيخ عبد الحميد ابنُ باديس شيخُ المُرَبِّينَ والمُصْلِحين في الجزائر في العصر الحديث» كلاهما للدكتور رابح تركي، «الأعلام» للزركلي (٤/ ٦٠)، «ابنُ باديس، حياتُه وآثارُه» لعمَّار طالبي (١/ ٧٢)، «معجم أعلام الجزائر» (٨٢) و«معجم المُفسِّرين» (١/ ٢٥٩) كلاهما للنويهض، «ابنُ باديس وعروبةُ الجزائر» لمحمد الميلي (٩) وما بعدها.