قاعدةٌ في المطلق والمقيَّد | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

قاعدةٌ في المطلق والمقيَّد

كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى فَرْدٍ أَوْ فَرْدَينِ أَوْ أَفْرَادٍ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ(١) بِدُونِ قَيْدٍ فَهُوَ المُطْلَقُ(٢)، سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا أَوْ فِعْلًا(٣)؛ فَيُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ حَتَّى يَأْتِيَ مَا يُقَيِّدُهُ(٤).

وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى مَا ذُكِرَ بِقَيْدٍ فَهُوَ المُقَيَّدُ، وَيَجِبُ اعْتِبَارُ قَيْدِهِ(٥).

قاعدةٌ في حمل المطلق على المقيَّد

مَهْمَا اتَّحَدَتْ صُورَةُ الإِطْلَاقِ وَصُورَةُ(٦)) التَّقْيِيدِ فِي الحُكْمِ إِلَّا وَحُمِلَ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَتَا فِي السَّبَبِ(٧) أَمْ لَا(٨).

فَالأُولَى(٩): كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥[الأعلى] المُفِيدِ لِمَطْلُوبِيَّةِ ذِكْرٍ مُطْلَقٍ؛ فَحُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ»(١٠) المُفِيدِ تَقْيِيدَ الذِّكْرِ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ إِرَادَةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَالحُكْمَ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ مَطْلُوبِيَّةُ مَا نَفْتَتِحُ بِهِ مِنَ الذِّكْرِ(١١).

وَالثَّانِيَةُ(١٢): كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ[المجادلة: ٣] المُفِيدِ تَحْرِيرَ(١٣) رَقَبَةٍ مُطْلَقًا(١٤)؛ فَحُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَ‍ٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ[النساء: ٩٢](١٥) المُفِيدِ تَقْيِيدَهَا(١٦) بِالإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الحُكْمَ(١٧) فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ مَطْلُوبِيَّةُ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ؛ إِذْ هُوَ فِي الأُولَى: الظِّهَارُ، وَفِي الثَّانِيَةِ: قَتْلُ الخَطَإِ(١٨).

وَمَهْمَا اخْتَلَفَ الحُكْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ إِلَّا وَامْتَنَعَ حَمْلُ المُطْلَقِ فِي إِحْدَاهُمَا عَلَى المُقَيَّدِ فِي الأُخْرَى، سَوَاءٌ اتَّحَدَ السَّبَبُ(١٩) أَمِ اخْتَلَفَ(٢٠).

فَالأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ[المجادلة: ٤] المُفِيدِ مَطْلُوبِيَّةَ صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ بِقَيْدِ التَّتَابُعِ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ[المجادلة: ٤] المُفِيدِ مَطْلُوبِيَّةَ الإِطْعَامِ بِإِطْلَاقٍ؛ فَلَا يُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ؛ لاِخْتِلَافِ الحُكْمِ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ وَإِنِ اتَّحَدَ السَّبَبُ فِيهِمَا وَهُوَ الظِّهَارُ(٢١).

وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا[المائدة: ٣٨]، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ[المائدة: ٦]؛ فَإِنَّ الحُكْمَ فِي الأُولَى هُوَ طَلَبُ القَطْعِ وَالسَّبَبَ فِيهَا هُوَ السَّرِقَةُ، وَالحُكْمَ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ طَلَبُ الغَسْلِ وَالسَّبَبَ فِيهَا هُوَ(٢٢) إِرَادَةُ القِيَامِ لِلصَّلَاةِ(٢٣).


(١) ومُرادُه: أنَّ اللفظ تَناوَلَ واحدًا مِنَ الأفراد لا بعينه، أي: أنه مُبْهَمٌ باعتبارِ حقيقةٍ شاملةٍ لجِنْسِه، وعليه تخرج: المَعارِفُ كزيدٍ، وما مدلولُه واحدٌ مُعيَّنٌ، والعامُّ المُسْتَغْرق لعدَمِ التعيين، وتخرج منه ألفاظُ الأعدادِ والعموم ـ أيضًا ـ باعتبارِها تَتناوَلُ أَكْثَرَ مِنْ واحدٍ، ويخرج منه المشتركُ والواجبُ المخيَّرُ لِتَناوُلهما واحدًا غيرَ معيَّنٍ باعتبارِ حقائقَ مُخْتَلِفةٍ.

(٢) ومَحَلُّ الإطلاقِ والتقييدِ الأمرُ ومَصْدَرُه، كقولك: «أَعْتِقْ رَقَبَةً»، و«أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً»، وتارةً يَرِدُ في الخبر كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» [«صحيح الجامع» (٢/ ١٢٥٤)]، مع روايةِ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وشَاهِدَيْ عَدْلٍ» [رواهُ البيهقيُّ في «سننه الكبرى» (٧/ ١١٢) رقم: (١٣٦٥٠)، موقوفًا على ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما].

وحريٌّ بالتنبيه: أنَّ الإطلاق لا يكون في النهي والنفي؛ لدخولهما بهذا الاعتبارِ في باب العموم، كما لا يحصل الإطلاقُ في الخبر المتعلِّقِ بالماضي، كقولك: «أَكْرَمْتُ طالبًا»؛ لتَعَيُّنِه بضرورةِ تَعَلُّقِ الإكرامِ بالطالب، وإنما يكون في مَعْرِض الخبر المُتعلِّقِ بالمستقبل، كقولك: «سأُكْرِمُ طالبًا»، ولك أَنْ تُقيِّدَهُ بالنجابة أو التفوُّق.

(٣) ومثالُ الإطلاقِ بالفعل: قولُه تعالى: ﴿وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ [البقرة: ٢٨٢]؛ فأَطْلَقَتِ الآيةُ الإشهادَ ولم تُقيِّدْه بالعدالة، لكِنْ جاء التقييدُ بقوله تعالى: ﴿مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ[البقرة: ٢٨٢]، وبقوله: ﴿وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ [الطلاق: ٢].

(٤) وقوله: «حتَّى يأتيَ ما يُقيِّدُه» يعني: أنَّ المطلق يكون في كلامٍ مُسْتَقِلٍّ، ويأتي المُقيَّدُ في كلامٍ مُسْتَقِلٍّ آخَرَ، وهذا هو المُرادُ بمسألةِ: «حَمْلِ المطلق على المقيَّد»، وليس مِنْ قبيلِ المسألة: «اجتماعُ المطلق والمقيَّد في كلامٍ واحدٍ»؛ إذ لا نِزاعَ في حَمْلِ المطلق على المُقيَّدِ في هذه الصورة، وفائدةُ التقييدِ تكمن في بيانِ المطلق والحكمِ عليه والتقليلِ مِنْ شيوعه وانتشاره وانحصارِه فيه.

(٥) و«المقيَّد» هو: «اللفظ الدالُّ على الماهية الموصوفةِ بأمرٍ زائدٍ عليها»، أو هو: «اللفظ المُتناوِلُ لمعيَّنٍ أو غيرِ مُعيَّنٍ موصوفٍ بأمرٍ زائدٍ على الحقيقة الشاملة لجنسه».

وإنما يجب اعتبارُ قيدِه إذا كان قائمًا على دليلٍ صحيحٍ، ولا يُشْتَرَطُ مُساواتُه في القوَّة مع المطلق؛ ذلك لأنَّ المُقيَّد بيانٌ للمطلق، ولا يُشْتَرطُ في البيانِ أَنْ يكون في درجة المبيَّن أو أقوى منه، وإنما يكفي أَنْ يكون المُبيِّن صحيحًا، كما يجب اعتبارُه إذا خَلَا مِنْ قرينةٍ أو دليلٍ يمنع حَمْلَ المطلقِ عليه، كما يمتنع حَمْلُ المطلقِ على المقيَّدِ إذا وَرَدَ قيدان مُتضادَّان واتَّحد السببُ والحكمُ في الإطلاق والقيدين؛ فإنَّ المطلق يبقى على إطلاقِه ويَتساقطُ القيدانِ لعدَمِ الأولوية بينهما في الإلحاق، وذلك مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ (١/ ٢٧٤) رقم: (١٧٢)، ومسلمٌ (٣/ ١٨٢) رقم: (٢٧٩)، والنسائيُّ في «سننه» (١/ ٥٢) رقم: (٦٣) وفي «الكبرى» (٦٩)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، وقولُه: «إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» واردٌ عند النسائيِّ، وهذا لفظُه في «الكبرى»]، وفي روايةٍ وَرَدَتْ مقيَّدةً ﺑ: «أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» [أخرجها مسلمٌ (٣/ ١٨٣) رقم: (٢٧٩)]، وفي أخرى: «أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» [أخرجها الترمذيُّ (١/ ١٥١) رقم: (٩١)].

أمَّا إذا اختلف السببُ دون الحكم، ووَرَدَ القيدان المتضادَّان على المطلق، وأمكن الترجيحُ؛ فإنَّ المطلق يُحْمَلُ على أقوى القيدين وأَرْجَحِهما شَبَهًا، مثل إطلاق صومِ كفَّارةِ اليمين في قوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ [المائدة: ٨٩] مِنْ غيرِ اشتراط التتابع الثابتِ في صيامِ الظِّهار في قوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ[المجادلة: ٤]، ولا التفريقِ الثابت في صيامِ التمتُّع في قوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ[البقرة: ١٩٦]؛ فإنه يُحْمَلُ على قَيْدِ الظِّهار لكونه أَقْرَبَ لليمين مِنَ التمتُّع، ولأنَّ كُلًّا منهما كفَّارةٌ، فضلًا عن تأييدِ التتابعِ بالقراءة الشاذَّة لابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

أمَّا إذا تَعَذَّرَ الترجيحُ في حَمْلِ أحَدِهما على الآخَرِ فإنه يبقى على إطلاقه: كإطلاق صومِ قضاءِ رمضان في قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة: ١٨٤، ١٨٥] عن تقييده بالتتابع الواردِ في كفَّارة الظِّهار والتفريقِ الوارد في صوم التمتُّع.

(٦) «أ، ب»: «سورة الإطلاق وسورة».

(٧) وهو ما عليه جمهورُ العُلَماءِ مِنْ حَمْلِ المطلق على المقيَّد إذا اتَّحد السببُ والحكم، وقد نَقَلَ الإجماعَ على هذه الصورة القاضيان الباقلَّانيُّ وعبد الوهَّاب وابنُ فورك والكيا الطبريُّ والمجد بنُ تيمية والآمديُّ وتَبِعَه الإسنويُّ، [انظر المَصادِرَ المُثْبَتَةَ على هامش: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٩٤)].

ومثاله: إطلاقُ الدمِ في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ[البقرة: ١٧٣]، مع ورودِ تقييدِ الدمِ بكونه مسفوحًا في قوله تعالى: ﴿إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا[الأنعام: ١٤٥]؛ فالسببُ هو الدمُ، وتحريمُه هو الحكم.

(٨) إذا اتَّحد الحكمُ واختلف السببُ فإنَّ ما عليه جمهورُ العُلَماء أَنْ يُحْمَلَ المطلقُ على المقيَّدِ قياسًا بجامعٍ بينهما؛ لجوازِ تخصيصِ العموم بالقياس، وبه قال أهلُ التحقيقِ مِنَ المالكية واختارَهُ الباجيُّ وابنُ الحاجب وِفاقًا للشافعيِّ وجمهورِ الشافعية وبعضِ الحنابلةِ كأبي الخطَّاب، خلافًا لمَنْ يحمل المطلقَ على المقيَّد عن طريق اللغة، وبه قال بعضُ المالكيةِ والشافعيةِ وبعضُ الحنابلة كأبي يعلى، وخلافًا ـ أيضًا ـ لمَنْ مَنَعَ حَمْلَ المطلق على المقيَّد أصلًا، وبه قال الحنفيةُ وأَكْثَرُ المالكيةُ، [انظر المَصادِرَ المُثْبَتَةَ على: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٩٦)].

(٩) «ب»: «فالأوَّل».

(١٠) هو جزءٌ مِنْ حديثٍ أخرجه أحمد (١/ ١٢٣) رقم: (١٠٠٦)، وأبو داود (١/ ٤٩) رقم: (٦١)، وابنُ ماجه (١/ ١٠١) رقم: (٢٧٥)، والترمذيُّ (١/ ٩) رقم: (٣)، مِنْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا، وأَوَّلُ الحديثِ ومُنْتَهاهُ بلفظِ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»، والحديثُ حسَّنه البغويُّ في «شرح السنَّة» (٣/ ١٧)، وصحَّحه الألبانيُّ بمجموعِ الشواهد، [انظر: «المجموع» للنووي (٣/ ٣٨٩)، «نصب الراية» للزيلعي (١/ ٣٠٨)، «الدراية» لابن حجر (١/ ١٢٦)، «صحيح الجامع الصغير» للألباني (٢/ ١٠٢٤) رقم: (٥٨٨٥)].

(١١) وهذا المثالُ الذي ساقَهُ المُصنِّفُ فيما إذا اتَّحد المطلقُ والمقيَّدُ في الحكم والسببِ وكان الحكمُ متمثِّلًا في طَلَبِ الفعل، بمعنى أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما أمرٌ؛ لأنَّ الصيغة الخبرية المذكورة واقعةٌ في معنى الإنشاء، وحَمْلُ المطلقِ على المقيَّد في هذه الصورةِ هو عملٌ بالدليلين؛ إذ «إِعْمَالُ الجَمْعِ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ وَالإِهْمَالِ»؛ ذلك لأنَّ العمل بالمقيَّد هو عملٌ بالدليلين لشموليته للكُلِّ، والآتي بالكُلِّ آتٍ بالجزء، أمَّا الاقتصارُ على العمل بالمطلق فيَسْتَلْزِمُ تَرْكَ المقيَّد ويكونُ عملًا بالجزء، والآتي بالجزء لا يكون آتيًا بالكُلِّ.

هذا، وفي اتِّحاد المطلق والمقيَّد في السبب والحكم قد يكون الحكمُ في كُلٍّ منهما نهيًا؛ والمسألةُ فيه ـ حالتئذٍ ـ تكون راجعةً إلى حُجِّيةِ المفهوم وجوازِ تخصيصِ عموم النهي به، وقد يكون أحَدُهما أمرًا والآخَرُ نهيًا؛ فترجعُ المسألةُ في ذلك إلى تقييد المطلق بضدِّه، سواءٌ كان المطلقُ أمرًا والمقيَّدُ نهيًا أو عكسه.

(١٢) «أ، ب»: «والثاني».

(١٣) «أ»: «مطلوبية».

(١٤) «ب»: «مطلقةٍ».

(١٥) ولفظُ «رقبة»: مطلقٌ مِنْ وجهٍ، ومُقيَّدٌ مِنْ وجهٍ آخَرَ، ﻓ: «الرقبة» مقيَّدةٌ مِنْ جهةِ الدِّين بالإيمان، لكنَّها مُطْلَقةٌ مِنْ ناحيةِ الأوصاف الأخرى ما سوى الإيمان: كالطول والقِصَر والبياض والسواد، [انظر: «تقريب الوصول» لابن جُزَيٍّ (١٠١ ـ ١٠٢) بتحقيقنا (ط.٣)].

وهذه الآيةُ مُقيِّدةٌ لمُطْلَقِ الرِّقاب ومُطْلَقِ الكَفَّارات، وهي مُطْلَقةٌ في كُلِّ رقبةٍ مؤمنةٍ، وفي كُلِّ كَفَّارةٍ مُجْزِئةٍ.

(١٦) «ب»: «بتقييدها».

(١٧) «أ»: «والحكم».

(١٨) وهذا المثالُ الذي ساقَهُ المُصنِّفُ في المطلق والمقيَّد إذا اتَّحدَا في الحكم واختلفَا في السبب، وكان كُلُّ واحدٍ منهما أمرًا؛ إِذْ وجوبُ إعتاقِ رقبةٍ في المطلق والمُقيَّدِ أمرٌ، وسببُ عِتْقِ الرقبة في المُطْلَقِ: الظهارُ، وفي المقيَّد: القتلُ الخطأ.

أمَّا إذا اتَّحد المطلقُ والمقيَّدُ في الحكم دون السبب وكان الحكمُ فيهما النهيَ والسببُ مُخْتَلِفًا فالمسألة راجعةٌ فيه إلى حُجِّيةِ القول بالمفهوم وجوازِ تخصيصِ عمومِ النهي به.

أمَّا إذا اتَّحد المُطْلَقُ والمقيَّدُ في الحكم دون السبب وكان أحَدُهما أمرًا والآخَرُ نهيًا مع اختلافٍ في السبب فإنَّ المطلق يُحْمَلُ على المقيَّد سواءٌ كان المطلقُ أمرًا والمقيَّدُ نهيًا أو عكسه.

(١٩) جَعَلَ المُصنِّفُ ضَابِطَ حَمْلِ المطلق على المقيَّد متجسِّدًا في اتِّفاق الحكم دون اختلافه مهما اتَّحد السببُ أو اختلف؛ ذلك لأنَّ في اتِّحادِ الحكمِ قُوَّةَ صِلَةٍ بين الكلامين، ويزيد قُوَّةً وتَقارُبًا إذا ما اتَّحد السببُ فيهما، أمَّا مع اختلافِ السبب واتِّحادِ الحكم فالأحوطُ حملُه عليه.

وكفى باختلافِ الحكم دليلًا على استقلالِ كُلٍّ مِنَ الكلامين بحكمه. ويزيده بُعدًا وانفصالًا إذا ما اختلف الحكمُ؛ فلا يُحْمَلُ عليه في حالةِ اتِّفاق السبب أو اختلافه.

(٢٠) نَقَلَ الآمديُّ ومَنْ تَبِعَه مِنَ المُحقِّقين الإجماعَ على امتناعِ حَمْلِ المطلق على المقيَّد إذا اختلفَا في الحكم، سواءٌ كانا مُثْبَتَيْن أو مَنْفِيَّيْن أو مُخْتَلِفَيْن، اتَّحد سببُهما أو اختلف.

قلت: وحكايةُ الإجماعِ فيها نظرٌ؛ فقَدْ نَقَلَ الباجيُّ اختلافَ المالكيةِ وغيرِهم على هذه الصورة، كما حكى الغزَّاليُّ اختلافَ الشافعيةِ فيها، والمشهورُ عدَمُ الحمل، [انظر المَصادِرَ المُثْبَتَةَ على هامش: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٩٦)].

(٢١) التتابعُ لا يجب في إطعامِ سِتِّين مسكينًا إجماعًا، أي: لا يجب أَنْ يُطْعِمَ بعضَهم عَقِبَ بعضٍ لاختلافِ الأنواع؛ إذ لا يجب رَدُّ المطلقِ إلى المقيَّدِ إلَّا عند تَشابُهِ الأحكام وتماثُلها، أمَّا إذا اختلفَتِ الأنواعُ فيَمتنع.

والأَوْلى أَنْ يُقال: هل يُحْمَلُ الإطلاقُ في الإطعام الواردِ في كفَّارة الظهار على تقييد الصيام بكونه مِنْ قَبْلِ أَنْ يتماسَّا في كفَّارة الظهار؟ والجمهورُ على امتناعِ حَمْلِ المطلق على المقيَّد في هذه الحالة.

(٢٢) «هو»ساقطةٌ مِنْ: «أ».

(٢٣) ﻓ: «اليد» في الآية الأولى مطلقةٌ، ولم يَرِدْ تقييدُها بتحديدِ موضع القطع مِنَ اليد، وقُيِّدَ غَسْلُ الأيدي بكونه إلى المَرافِق؛ فلا يُحْمَلُ إطلاقُ اليد في الآية الأولى على التقييد الوارد في الآية الثانية إجماعًا لاختلاف السبب والحكم.