Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

الكلمة الشهرية رقم: ١٢١

ومضاتٌ توضيحيةٌ
على العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
لابن باديس ـ رحمه الله ـ

ـ تنبيهات واستدراكات ـ

ـ الحلقة التاسعة ـ

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

ففي هذه السلسلة الومضاتية أُواصِلُ متابعةَ فصولِ عقائد الإيمان بالملائكة والكُتُب والرسل مِنَ «العقائد الإسلامية» للإمام ابنِ باديس ـ رحمه الله ـ بتوضيحها بالتنبيهات والاستدراكات على ما يأتي:

[الباب التاسع]
الإيمان بالملائكة

◙ الومضة التاسعة والعشرون:

■  قول المصنِّف ـ رحمه الله ـ في الفصل ٦٢: «بيانُ حقيقةِ الملائكة وصِفَاتِهم وأعمالهم» (ص ٩٨):

«المَلَائِكَةُ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ، لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا بِأُنُوثَةٍ، مُيَسَّرُونَ لِلطَّاعَاتِ، مَعْصُومُونَ مِنَ المَعَاصِي، مُسَخَّرُونَ ـ بِإِذْنِ اللهِ ـ فِي شُئُونِ الخَلْقِ وَتَدْبِيرِ الكَوْنِ، وَحِفْظِ العِبَادِ وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ، أُمَنَاءُ عَلَى الوَحْيِ فِي حِفْظِهِ وَتَبْلِيغِهِ»، ثُمَّ ساق الأدلَّةَ على ذلك.

■ تنبيه واستدراك:

• فضلًا عن تَيْنِك الصفتَيْن الخَلْقيَّتَيْن اللَّتَيْن ذَكَرَهما المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ فإنه يمكن إضافةُ صفاتٍ خَلْقيةٍ أخرى للملائكة ـ باختصارٍ ـ إتمامًا للفائدة، وتظهر فيما يلي:

ـ أوَّلًا: ضخامة خِلْقَةِ الملائكة وعِظَمُ أجسامهم وقوَّتِهم؛ لقوله تعالى في شأنِ جبريلَ عليه السلام: ﴿عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ ٥ ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦[النجم]، وقولِه: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ ١٩ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ ٢٠[التكوير]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم واصفًا له: «رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ»(١)، وغيرها.

ـ ثانيًا: أجنحة الملائكةِ وعِظَمُ سرعتهم وحُسْنُ منظرهم؛ فقَدْ «رَأَى رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم جِبْرِيلَ فِي صُورَتِـهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، [كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ]، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَاليَاقُوتِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ»(٢) وغيرها.

ـ ثالثًا: عدَمُ حاجةِ الملائكة للأكل والشرب وغيرهما؛ لقوله تعالى ـ في قصَّة الخليل إبراهيم عليه السلام حين جاءَتْه الملائكة ـ: ﴿فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ ٧٠[هود]، ونحوِ ذلك مِنَ الآيات.

ـ رابعًا: قدرة الملائكة على التشكُّل والتمثُّل؛ كتمثُّلِ جبريل عليه السلام لمريم في صورةِ بشرٍ؛ قال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا ١٦ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا ١٧ قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا ١٨ قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا ١٩ [مريم]، ونحوِ ذلك.

ـ خامسًا: عِلْمُ الملائكةِ وكلامُهم وانتفاءُ المَلَلِ عنهم؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢[الانفطار]، وقولِه تعالى: ﴿فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسۡ‍َٔمُونَ۩ ٣٨[فُصِّلَتْ]، إلى غيرها مِنَ الآيات.

• والمصنِّفُ ـ رحمه الله ـ لم يتعرَّضْ للصفاتِ الخُلُقية التي تَتَّصِفُ بها الملائكةُ إلَّا مِنْ جهةِ كونِهم أُمَناءَ طائعين معصومين أو بعضِ الآيات التي استدلَّ بها ـ رحمه الله ـ، ويمكن أَنْ نُجْمِلَ الصفاتِ الخُلُقيةَ مشفوعةً بدليلها فيما يلي:

ـ أوَّلًا: صفة الكرم والبِرِّ؛ قال تعالى: ﴿بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ ١٥ كِرَامِۢ بَرَرَةٖ ١٦[عَبَسَ].

ـ ثانيًا: صفة الحياء؛ ودليلُه ما رواهُ مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أنها قالت للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟» فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ المَلَائِكَةُ؟!»(٣).

ـ ثالثًا: صفة التواضع للحقِّ والخَلْق؛ ويدلُّ عليه: قولُه تعالى: ﴿وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩[الأنبياء]، وقولُه تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩ ٢٠٦[الأعراف].

ومِنْ تَواضُعِهم للخَلْقِ: سجودُهم لآدَمَ عليه السلام، ومحبَّتُهم لعِبادِ الله، ودُعاؤُهم واستغفارُهم لهم، وإحسانُهم إليهم.

[الباب العاشر]
الإيمان بكتب الله تعالى

◙ الومضة الثلاثون:

■  قول المصنِّف ـ رحمه الله ـ في الفصل ٦٣: «معنى الإيمان بالكُتُب المنزلة ومُقتضَياتُه» (ص ١٠١):

«نُؤْمِنُ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ المُنْزَلَةِ عَلَى رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَمِنْهَا: التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالقُرْآنُ، وَمِنْهَا غَيْرُهَا مِمَّا لَمْ نَعْلَمْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ؛ فَكُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَكُلُّ مَا فِيهَا حَقٌّ».

■  وقول المصنِّف ـ رحمه الله ـ في الفصل ٦٤: «حفظُ اللهِ القرآنَ دونَ غيرِه» (ص ١٠١):

«حَفِظَ اللهُ القُرْآنَ دُونَ غَيْرِهِ: حَفِظَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ؛ فَبَقِيَ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؛ فَهُوَ كُلُّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَلَمْ يَحْفَظْ غَيْرَهُ مِنَ الكُتُبِ فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ وَالتَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ؛ فَفِيهَا حَقٌّ وَفِيهَا بَاطِلٌ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ اللهُ القُرْآنَ شَاهِدًا عَلَيْهَا؛ فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩[الحِجْر]، وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِ[المائدة: ٤٨]».

■ تنبيه واستدراك:

• المصنِّف ـ رحمه الله ـ أطلق على الكُتُب السماوية أنَّ «كُلَّ ما فيها حقٌّ»، ولم يُقيِّدْها بما قبل أَنْ تتطرَّق إليها يدُ التحريف والتصحيف والتبديل والتغيير والزيادة والنقص، وما أصابها مِنْ تضييعٍ ونسيانٍ، باستثناء القرآن الكريم الذي بقي في أمَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم محفوظًا لم تَجْرِ عليه زيادةٌ ولا نقصانٌ، ولم يَفُتْ منه شيءٌ، ولم يَضِعْ بنسيانِ ناسٍ ولا ضلالِ صحيفةٍ، ولم يتعرَّضْ للتحريف ولا التبديل، كما وَعَد اللهُ تعالى بقوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩[الحِجْر].

غير أنَّ المصنِّف ـ رحمه الله ـ ذَكَر هذا المعنى في الفصل الذي يَليه، مُشيرًا إلى أنَّ الكُتُبَ السماوية ما عَدَا القرآن الكريم قد دَخَل فيها التحريفُ والتبديل والتضييع وغيرها؛ ولهذا قال ـ رحمه الله ـ: «فَفِيهَا حَقٌّ وَفِيهَا بَاطِلٌ».

وكان الأَوْلى أَنْ يُقيِّد ـ رحمه الله ـ العبارةَ الأُولى تقييدًا مُتَّصِلًا عند قولـه عن الكُتُب المنزلة: «فَكُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَكُلُّ مَا فِيهَا حَقٌّ» بما قبل دخول التحريف والتبديل عليها؛ لئلَّا يُتوهَّم التعارضُ بين العبارتين؛ فيُدْفَعُ الإيهامُ في وقته ويُبيَّن الأمرُ في حينه.

◙ الومضة الحادية والثلاثون:

■  وقول المصنِّف ـ رحمه الله ـ في الفصل ٦٥: «القرآن هو الهداية العامَّة للبشر» (ص ١٠٢):

«نُؤْمِنُ بِأَنَّ القُرْآنَ العَظِيمَ أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى(٤) هِدَايَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ البَشَرِ لِمَا فِيهِ سَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالأُخْرَوِيَّةُ؛ بِتَنْوِيرِ العُقُولِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَتَقْوِيمِ الأَعْمَالِ، وَإِصْلَاحِ الأَحْوَالِ، وَتَنْظِيمِ الِاجْتِمَاعِ البَشَرِيِّ عَلَى أَكْمَلِ نِظَامٍ، [وكُلُّ مَنْ](٥) خَالَفَهُ فَهُوَ ضَالٌّ».

■ تنبيه واستدراك:

• المصنِّف ـ رحمه الله ـ ذَكَر أنَّ الله أَنْزَل القرآنَ هدايةً عامَّةً لجميع البشر، ثمَّ أعقب ذلك بقوله: «وكُلُّ مَنْ خالفه فهو ضالٌّ»، ولعلَّه يُفْهَم ـ مِنْ ذِكْرِ خصوص المخالِفِ الضالِّ ـ عدمُ شمولِ الهداية له تحديدًا على وجه التعيين، أو شمولُهَا له ابتداءً لا انتهاءً، أي: خروجه منها بسببِ مخالفته، وهو الأقرب إلى مذهب المصنِّف.

والذي يظهر لي صحيحًا أنَّ القرآن العظيم هدًى ورحمةٌ وموعظةٌ وتذكيرٌ للناس أجمعين، غير أنَّ المُخالِف الضالَّ لم تنتفِ عنه الهدايةُ كُلِّيًّا، وإنما حَصَل على هدايةٍ ناقصةٍ غيرِ نافعةٍ، وهي هدايةُ بيانٍ لا توفيقٍ؛ لعدمِ توفيقه للعمل بمُقتضاها؛ وفي هذا المعنى قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ: «فالمُتَّقون هُمُ المُنْتَفِعون بالآيات القرآنية والآياتِ الكونيـة؛ ولأنَّ الهداية نوعان: هدايةُ البيانِ وهدايةُ التوفيقِ؛ فالمُتَّقون حَصَلَتْ لهم الهدايتان، وغيرُهم لم تحصل لهم هدايةُ التوفيق، وهدايةُ البيانِ بدون توفيقٍ للعمل بها ليسَتْ هدايةً حقيقيةً تامَّةً»(٦).

[الباب الحادي عشر]
عقائد الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام

◙ الومضة الثانية والثلاثون:

■  قول المصنِّف ـ رحمه الله ـ في الفصل ٧٢: «ختمُ الرسالةِ وعمومُها» (ص ١١٦):

«خَتَمَ اللهُ الرِّسَالَةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ رِسَالَتَهُ الرِّسَالَةَ العَامَّةَ لِلْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالمَلَائِكَةِ».

■ تنبيه واستدراك:

• نصَّ المصنِّف ـ رحمه الله ـ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مبعوثٌ ـ أيضًا ـ إلى الملائكة الكرام، وهو أحَدُ أقوالِ أهل العلم، رجَّحه السبكيُّ ووافقه عليه السيوطيُّ ـ رحمهما الله ـ(٧)، «وزاد أنه صلَّى الله عليه وسلَّم مُرْسَلٌ إلى جميع الأنبياء والأُمَمِ السابقة، وزَعَم أنَّ قولَه صلَّى الله عليه وسلَّم: «بُعِثْتُ للناس كافَّةً»(٨) شاملٌ لهم مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلى قيام الساعة، ورجَّح هذا القولَ البارزيُّ، وزاد أنه مُرْسَلٌ إلى جميع الحيوانات، واستدلَّ على ذلك بشهادة الضبِّ له بالرسالة(٩) وبشهادة الحجر والشجر لـه ـ أيضًا ـ بذلك، قال الحافظ السيوطيُّ: وأَزِيدُ إلى ذلك أنه مُرْسَلٌ إلى نفسه»(١٠).

والذي ينبغي معرفتُه وتقريرُه هو: أنَّ الله تعالى أَكْرَم الملائكةَ وكلَّفهم بعباداتٍ كثيرةٍ ومتنوِّعةٍ مِنْ عباداتٍ قلبيةٍ وقوليةٍ وفعليةٍ، وقد تتَّفِقُ مع العبادات التي كُلِّفَ بها الإنسُ ـ وإِنِ اختلفَتْ في الصفة والعدد ـ لكِنْ لا يَلْزَمُ أنهم مُساوُونَ للبشر في نوع العبادة في شريعة الإسلام، وقد نَقَل ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ عن ابنِ العربيِّ المالكيِّ ـ رحمه الله ـ وغيرِه «أنَّ الملائكة ليسوا مكلَّفين بمِثْلِ ما كُلِّفَ به الإنسُ»(١١)، علمًا أنَّ الله كلَّفهم بأعمالٍ خاصَّةٍ بهم تتَّفِقُ مع أجسامهم وخِلْقتهم، وقد وَصَفهم اللهُ تعالى بالعبودية بقوله: ﴿بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦[الأنبياء]، وبيَّن أنهم يُؤْمَرون ويُطِيعون في قوله تعالى: ﴿لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦[التحريم]، وقولِه: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ۩ ٥٠[النحل].

كما بيَّن اللهُ تعالى أنَّ جميعَ أعمالِهِم وعباداتِهم إنما هي امتثالٌ وطاعةٌ خالصةٌ لأوامر الله وبإذنٍ منه في مِثْلِ قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَ[مريم: ٦٤]، ويدلُّ عليه سببُ نزولِ هذه الآية، فقَدْ أخرج البخاريُّ ـ رحمه الله ـ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِجِبْرِيلَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟»، فَنَزَلَتْ: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا[مريم: ٦٤]»(١٢).

قال السفارينيُّ ـ رحمه الله ـ: «والحاصل أنَّ نبيَّنا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مبعوثٌ إلى الثَّقَلين بالإجماع، ورسالتُه مُطبِّقةٌ جميعَ الأكوان، ولا الْتفاتَ لزعمِ بعضِ مُلْحِدي أهلِ الكتاب مِنْ خصوصِ رسالته للعرب؛ لأنَّ هذا مُكابَرةٌ باطلةٌ ومُغالَطةٌ عاطلةٌ؛ لوجوهٍ بديهيةِ البرهان، منها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يكذب، وقد أُنْزِلَ عليه في مُحْكَمِ القرآن: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا[الأعراف: ١٥٨]، ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ[سبأ: ٢٨]»(١٣).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٩ جمادى الآخرة ١٤٣٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٨ مــــــــارس ٢٠١٧م



(١) أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٣/ ٨) بابُ معنَى قولِ الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣[النجم]، والترمذيُّ في «تفسير القرآن» (٥/ ٢٦٢) باب: ومِنْ سورة الأنعام، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٢) أخرجه أحمد في «مسنده» (١/ ٣٩٥) مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه. قال أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (٥/ ٢٨٢): «إسنادُه صحيحٌ»، وجوَّد إسنادَه ابنُ كثيرٍ في «البداية والنهاية» (١/ ٤٤)، إلَّا أنَّ عبارةَ: «كُلُّ جناحٍ منها قد سدَّ الأُفُقَ» الواردةَ بين معقوفين قدِ استنكرها الألبانيُّ في: «الإسراء والمعراج»، انظر: (ص ١٠١، ١٠٢).

(٣) أخرجه مسلمٌ في «فضائل الصحابة» (١٥/ ١٦٨) بابٌ مِنْ فضائلِ عثمانَ رضي الله عنه.

(٤) «م.ف»: بزيادةِ: «إلى» بعدها، ولعلَّه خطأٌ مطبعيٌّ.

(٥) «م.ر»: «وَأَنَّ كُلَّ مَا».

(٦) «تفسير السعدي» (٢٩).

(٧) انظر: «الخصائص الكبرى» للسيوطي (٢/ ٣٢١).

(٨) أخرجه مسلمٌ في «المساجد» (٥/ ٥)، والترمذيُّ في «السِّيَر» (٤/ ١٢٣) بابُ ما جاء في الغنيمة، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٤١١ ـ ٤١٢)، كُلُّهم مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٩) هذا، وحريٌّ بالتنبيه والتحقيق أنَّ حديث الضبِّ حَكَم عليه أهلُ الاختصاص بأنه خبرٌ باطلٌ لِمَا فيه مِنَ النكارة والغرابة، انظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (٦/ ١٤٩)، «لسان الميزان» لابن حجر (٥/ ٢٩٢).

(١٠) «لوامع الأنوار» للسفاريني (٢/ ٢٧٩).

(١١) «فتح الباري» لابن حجر (٢/ ٤).

(١٢) أخرجه البخاريُّ في «بدء الخَلْق» (٦/ ٣٠٥) بابُ ذِكْرِ الملائكة، وفي «التفسير» (٨/ ٤٢٨) باب: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَ[مريم: ٦٤].

(١٣) «لوامع الأنوار» للسفاريني (٢/ ٢٨٩).