Skip to Content
الخميس 18 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 28 مارس 2024 م

الكلمة الشهرية رقم: ٦٦

في مسؤوليةِ ناظِرِ الوقف
بين التغيير الجائز والمحرَّم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقد حثَّ الشرعُ على الوقف ونَدَبَ إليه، وجَعَله قُرْبةً يَلْحَق المؤمنَ مِنْ ثوابها في حياته، وتجري بها حسناتُه بعد موته؛ لأنها مِنْ كَسْبِه وسَعْيِه، وقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»(١)، والحديثُ لا يُعارِض قولَه تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩[النجم]؛ لأنَّ وَلَدَه، وما يخلِّفه مِنْ علمٍ، وما يتركه مِنْ صدقةٍ جاريةٍ كُلُّها مِنْ سعيه.

وهذه الأعمالُ الصالحة غيرُ محصورةٍ في الحديث، بل هي تمثيلٌ لخصالٍ حسنةٍ وأبوابِ بِرٍّ وإحسانٍ تزيد عن ذلك، وقد جاء في الحديثِ ما يُفيد هذا المعنى في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»(٢)، ولا تَزال أمَّتُنا تقف مِنْ أموالها إلى يومِنا هذا.

والواقف جائزُ التصرُّف إِنْ وَقَف مِلْكَه الثابتَ المعيَّن على جهةِ بِرٍّ كالمساجد أو المَدارِسِ القرآنية والمصاحفِ أو كُتُبِ العلم النافع؛ فإنه يجب العملُ بشرطِه إلَّا إذا تَضَمَّنَ ما يُخالِفُ الشرعَ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»(٣)، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ...»، الحديث(٤).

والوقف إِنْ كان مسجدًا فالنظارةُ للحاكمِ أو مَنْ يقوم مَقَامَه نيابةً عنه، ولا يجوز له التصرُّفُ في الوقف بالبيع والهِبَةِ والإرث وغيرِها مِنْ أنواعِ التناقل؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم في شأنِ الوقف لعُمَرَ رضي الله عنه: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ(٥)، كُلُّ ذلك ما لم تتعطَّلْ مَنافِعُ الوقفِ بالكُلِّيَّة: كالمسجد الذي خَرِبَ مَحَلُّه؛ فإنه يجوز إبدالُه لمصلحةٍ راجحةٍ، ويُباع ويُصْرَف ثمنُه في مثله أَيْ: في مسجدٍ آخَرَ أَصْلَحَ لأهلِ البلد منه، وكذلك إذا زادَ رِيعُه عن قَدْرِ حاجته؛ فإنَّ الزائد يُصْرَف إلى مسجدٍ غيرِه؛ وذلك لأنَّ صَرْفَه إلى مِثْلِه انتفاعٌ به في جنسِ ما وُقِف له. وفي تقريرِ هذا المعنى أجاب ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ عن الوقف إذا فَضَلَ رِيعُه واستغنى بأنه «يُصْرَف في نظيرِ تلك الجهةِ، كالمسجد إذا فَضَلَ عن مَصالِحه صُرِفَ في مسجدٍ آخَرَ؛ لأنَّ الواقف غَرَضُه في الجنس والجنسُ واحدٌ؛ فلو قُدِّر أنَّ المسجد الأوَّل خَرِبَ ولم ينتفع به أحَدٌ صُرِف رِيعُه في مسجدٍ آخَرَ؛ فكذلك إذا فَضَل عن مصلحته شيءٌ؛ فإنَّ هذا الفاضل لا سبيلَ إلى صَرْفِه إليه ولا إلى تعطيله؛ فصَرْفُه في جنسِ المقصود أَوْلى وهو أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلى مقصود الواقف»(٦)، كما تجوز الصدقةُ بالفاضل مِنْ غلَّةِ وَقْفِ المسجد على المساكين ـ أيضًا ـ، بل يجب إِنْ عَلِم أنَّ وَقْفَه لا يبقى دائمًا؛ لأنَّ تَرْكَ فائضِ ريعِ الوقف مِنْ غيرِ انتفاعٍ تضييعٌ وفسادٌ(٧)، وقد نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن إضاعةِ المال(٨).

هذا، والأوقافُ الخيرية اؤتُمِنَ عليها ناظِرُ الوقف؛ فعليه أَنْ يتَّقيَ اللهَ فيها، ويُحافِظَ عليها، ويُحْسِن ولايتَه على ما تولَّاه أمانةً بكُلِّ ما وَسِعَه؛ تحقيقًا لمقصودِ الواقف مِنَ التقرُّب إلى الله بالبرِّ ومُخْتَلَف الطاعات؛ لذلك يَحْرُم على ناظرِ الوقفِ تغييرُ أو تبديلُ جزءٍ منها أو تحويلُ أو صَرْفُ مَنافِعِها إلى جهاتٍ مُنافِيةٍ لشعائرِ التقوى: فلا يجوز تغييرُه إلى مَعابِدِ الكُفَّار، أو بناءُ المَشاهِدِ والأضرحةِ عليها أو دَفْنُ الموتى في المساجد أو في أَفْنِيَتِها أو ساحاتها، أو صَرْفُ غلَّةِ الأوقاف على سَدَنَةِ الأضرحة والقِباب أو في إسراجها وتنويرِها وسَتْرِها وتبخيرِها، كما يَحْرُم اقتطاعُ جزءٍ منها لاتِّخاذِ التماثيل والأنصبة التذكارية وغيرِ التذكارية أو رَفْعِ الصور عليها أو على الجزء المُقْتَطَع، أو تخصيصُها للمَلاهي والمعاصي، ونحو ذلك ممَّا هو مُنافٍ للتوحيد أو لكماله أو مُضادٌّ للبرِّ والتقوى؛ فإنَّ ذلك مِنَ التغييرِ المحرَّم، والتعاونُ عليه معدودٌ مِنَ الإثم والعدوانِ المنهيِّ عنه في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ[المائدة: ٢].

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٠ شوَّال ١٤٣٢ﻫ
الموافق ﻟ: ١٨ سبتمبر ٢٠١١م

 


(١) أخرجه مسلمٌ في «الوصيَّة» (١٦٣١)، وأخرجه ـ بهذا اللفظِ ـ الترمذيُّ في «الأحكام» بابٌ في الوقف (١٣٧٦)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٧٩٣) وفي «الإرواء» (١٥٨٠).

(٢) أخرجه ابنُ ماجه في «المقدِّمة» بابُ ثوابِ مُعَلِّمِ الناسِ الخيرَ (٢٤٢) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٢٣١).

(٣) أخرجه الترمذيُّ في «الأحكام» بابُ ما ذُكِر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصلح بين الناسِ (١٣٥٢) مِنْ حديثِ كثير بنِ عبد الله بنِ عمرِو بنِ عوفٍ عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١٣٠٣).

(٤) أخرجه ـ بهذا اللفظِ ـ النسائيُّ في «الطلاق» بابُ خيارِ الأَمَةِ تُعْتَقُ وزوجُها مملوكٌ (٣٤٥١)، وابنُ ماجه في «العتق» بابُ المكاتب (٢٥٢١)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاريُّ في «البيوع» باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تَحِلُّ (٢١٦٨)، ومسلمٌ في «العتق» (١٥٠٤) بلفظ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ».

(٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الوصايا» باب الوقف: كيف يُكْتَبُ؟ (٢٧٧٢)، ومسلمٌ في «الوصيَّة» (١٦٣٢)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.

قال الترمذيُّ عند إخراجه للحديث في «الأحكام» بابٌ في الوقف (١٣٧٥): «هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، والعملُ على هذا عند أهلِ العلم مِنْ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرِهم، لا نعلم بين المتقدِّمين منهم في ذلك اختلافًا في إجازةِ وَقْفِ الأَرَضين وغيرِ ذلك».

(٦) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣١/ ٢٠٦).

(٧) انظر: «المستدرَك على مجموع الفتاوى» لابن قاسم (٤/ ١٠٨).

(٨) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الزكاة» بابُ قول الله تعالى: ﴿لَا يَسۡ‍َٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗا[البقرة: ٢٧٣] وكَمِ الغنى؟ (١٤٧٧)، ومسلمٌ في «الأقضية» (٥٩٣)، مِنْ حديثِ المغيرةِ بنِ شُعْبة رضي الله عنه.