في حكم استعمال عبارة «لا تُلْزِمْني» و«لم أقتنع» لردِّ الحقِّ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 21 المحرم 1446 هـ الموافق لـ 27 يوليو 2024 م

الفتوى رقم: ١١٥٠

الصنف: فتاوى منهجيَّة

في حكم استعمال عبارة
«لا تُلزِمْني» و«لم أقتنع» لردِّ الحقِّ

السؤال:

نودُّ سؤالَكم ـ شيخَنا ـ عمَّنْ يَرُدُّ على نصيحةِ الناصحين مِنْ بعض الدعاة أو أتباعهم ـ وخاصَّةً في أثناءِ مناقشته في مَسائِلَ علميَّةٍ ـ بعباراتٍ مختلِفةٍ مثل أَنْ يقول: «لا تُلْزِمْني»، أو «لا يَلْزَمُني»، أو «أنا لستُ بمقلِّدٍ»، أو «لم أقتنع»، أو «هذه نصيحةٌ لا يُراد بها وجهُ الله»، علمًا أنه قد تكون النصيحةُ في مَسائِلَ ثابتةٍ بالدليل القطعيِّ مِنْ نصٍّ أو إجماعٍ. وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فهذه طُرُقٌ ماكرةٌ وأساليبُ مُلتوِيَةٌ ما أَنْزَلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، حيث يستعملها المُخالِفُ تقصُّدًا للتخلُّص مِنَ الحقِّ الظاهر بالدليل الراجح أو الثابتِ دون مُعارِضٍ وفرارًا مِنْ إقامةِ الحجَّة والبرهان عليه؛ فعند أيِّ مُحاصَرةٍ علميَّةٍ يلتوي بهذا الأسلوبِ ليجد لنَفْسِه مَخْرَجًا عن الحقِّ يستمرُّ به في غَيِّه وضلاله، وهذا ما يحصل كثيرًا مع المُسْتَمْسِكين بالشُّبَه المُفْلِسين مِنَ الحجج مِنْ أصحاب المناهج العَقَديَّة الفاسدة ومَنْ سارَ في فَلَكِهم مِنَ المُبْطِلين والمتحزِّبين وأضرابِهم مِنْ أصحابِ المناهج الدعويَّة المُنْحَرِفة، حيث يتوسَّعون في استعمالِ هذه الألفاظِ الشيطانيَّة ليتنصَّلوا مِنَ الحقِّ عن علمٍ أو جهلٍ، فمِنْ عباراتهم ـ أيضًا ـ: «أَحْتَرِمُ وِجْهةَ نَظَرِك، لكن لا تُلْزِمْني بها»، أو عبارةُ: «هذا القولُ أَلْزِمْه طائفتَك ولا تُقْنِعني به»، أو «هذه المسألةُ فيها خلافٌ والأمرُ فيها واسعٌ»، أو «هذا منهجُكم وليس بمنهجنا»، أو «هذا مذهبٌ شاذٌّ ليس عليه أمرُ أمَّتنا»، ونحو ذلك مِنَ العبارات المتَّخَذةِ ذريعةً ـ في المحاوَرةِ والمناقَشةِ خاصَّةً ـ للهروب والانحراف عن سواء السبيل، ومع الأسَفِ الشديد فقَدْ تسرَّبَتْ هذه الطُّرُقُ الفاسدة ـ في دَفْعِ الحقِّ وصدِّ الناسِ عنه ـ إلى بعضِ السلفيين الذين يرفعون شعارَ «الرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة وعلى فهمِ سَلَفِ الأمَّة» بألسنتهم، لكن يعزُّ وجودُه في سلوكهم وتصرُّفاتهم وأفعالهم، وقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٣[الصفُّ].

والمعلوم أنَّ الإلزام والاقتناعَ أمرانِ يتعلَّقان بالنصوص الشرعيَّة والأدلَّة، وليس للعبد فيما ظَهَرَ له فيه الدليلُ قويًّا راجحًا وأُقيمَتْ عليه الحجَّةُ البيِّنة أَنْ يختار غيرَ طاعةِ الله فيه والإذعانِ إليه والانقيادِ له، فالعبوديَّةُ لله تكمن في هذه المعاني لقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥[النساء]؛ ذلك لأنَّ اتِّباع الهوى والهروبَ عن الاستقامةِ اختيارٌ فاسدٌ مُنافٍ للعبوديَّة الحقَّةِ لله تعالى والطاعةِ المطلقة له سبحانه ولرسوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ[الأحزاب: ٣٦]، كما يجب إلزامُ المكلَّف بالإجماع والاقتناعُ به والانقيادُ إليه إذا ثَبَتَ بنقلٍ موثوقٍ صحيحٍ لقوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥[النساء].

وعليه فليس للمُخالِفِ ـ كائنًا مَنْ كان ـ أَنْ يتمسَّك باختلافِ العلماء؛ لأنَّ اختلافهم ليس بحجَّةٍ؛ وقد نَقَلَ ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ الإجماعَ على أنَّ الاختلاف ليس بحجَّةٍ فقال: «الاختلاف ليس بحجَّةٍ عند أحَدٍ علِمْتُه مِنْ فقهاء الأمَّةِ إلَّا مَنْ لا بَصَرَ له ولا معرفةَ عنده ولا حجَّةَ في قوله»(١)، وقد علَّل ذلك بقوله: «ولا يجوز أَنْ يُراعِيَ الاختلافَ عند طلبِ الحجَّةِ لأنَّ الاختلافَ ليس منه شيءٌ لازمٌ دون دليلٍ، وإنما الحجَّةُ اللازمةُ الإجماعُ لا الاختلاف؛ لأنَّ الإجماع يجب الانقيادُ إليه لقول الله: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ[النساء: ١١٥] الآية، والاختلافُ يجب طَلَبُ الدليلِ عنده مِنَ الكتاب والسُّنَّة، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ[النساء: ٥٩] الآية، يريد: الكتابَ والسُّنَّة»(٢).

فلا بدَّ ـ حالتئذٍ في كُلِّ مسألةٍ خلافيَّةٍ ـ مِنَ التمسُّك بالدليل الراجح وتقديمِه على المرجوح إذا تعذَّر الجمعُ أو النسخ كما هو مقرَّرٌ في طُرُقِ دفعِ التعارض؛ إذ «الأَضْعَفُ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ العَمَلِ بِالأَقْوَى، وَالمَرْجُوحُ لَا يَدْفَعُ التَّمَسُّكَ بِالرَّاجِحِ»(٣).

وعليه، فلا يستقيم أمرُ الدِّينِ بعبادةِ الله بالتشهِّي والتمنِّي وتتبُّعِ الرُّخَص والتخيُّر بين أقوالِ المُفْتِين بالرأي المجرَّد عن الدليل؛ وقد نَقَلَ ابنُ عبد البرِّ والباجيُّ ـ رحمهما الله ـ الإجماعَ على عدَمِ جواز تتبُّع الرُّخَص والعملِ في دِينِ الله بالتشهِّي(٤) لأنه عبادةٌ للهوى ومخالَفةٌ لأحَدِ شرطَيِ العبادة وهي المتابَعةُ للرسول صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ١١٠[الكهف]؛ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وبالجملةِ فلا يجوز العملُ والإفتاءُ في دِينِ الله بالتشهِّي والتخيُّرِ ومُوافَقةِ الغرض: فيطلبَ القولَ الذي يُوافِق غَرَضَه وغَرَضَ مَنْ يُحابِيه فيعملَ به ويُفْتيَ به ويحكمَ به، ويحكمَ على عدوِّه ويُفْتِيَه بضدِّه، وهذا مِنْ أَفْسَقِ الفسوق وأكبرِ الكبائر»(٥).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠٣ مِن المحرَّم ١٤٣٤ﻫ
الموافق ﻟ: ١٧ نوفمبر ٢٠١٢م

 



(١) «جامِع بيان العلم وفضلِه» لابن عبد البرِّ (٢/ ٩٢٢).

(٢) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (١/ ١٤٣).

(٣) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٧٢).

(٤) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ٢١١)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٤/ ٥٧٨)، «فواتح الرَّحَمُوت» للأنصاري (٢/ ٤٠٦).

(٥) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ٢١١).