في الاعتراض عن الفتوى الموسومة ﺑ «كسوةِ جُدرانِ البيوتِ بالورَق لغرض الزِّينة» | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 18 شوال 1445 هـ الموافق لـ 27 أبريل 2024 م

فلِقائلٍ أَنْ يقول ـ بارك اللهُ فيكم ـ: حكمُ هذا هو الإباحةُ مِنْ بابِ أنَّ عائشةَ رضي الله عنها اتَّخذت بعد ذلك مِنْ هذا النَّمَطِ وِسادتَيْن، ولم يُنكِر عليها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ذلك...  للمزيد

الفتوى رقم: ١٣٦٧

الصنف: فتاوى اللِّباس والزِّينة

في الاعتراض عن الفتوى الموسومة
ﺑ «كسوةِ جُدرانِ البيوتِ بالورَق لغرض الزِّينة»

السؤال:

ذكَرْتُم ـ أَحسنَ اللهُ إليكم ـ في فتوَى سابقةٍ برقم: (1365) موسومةٍ ﺑ «حكم كسوةِ جُدرانِ البيوتِ بالورَق لغرض الزِّينة» ما جاء في الحديث عن عائشةَ رضي الله عنها تُخبِر عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: «رَأَيْتُهُ خَرَجَ فِي غَزَاتِهِ، فَأَخَذْتُ نَمَطًا(١) فَسَتَرْتُهُ عَلَى البَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَوْ قَطَعَهُ، وَقَالَ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ»؛ قَالَتْ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتُهُمَا لِيفًا، فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ»(٢)؛ فلِقائلٍ أَنْ يقول ـ بارك اللهُ فيكم ـ: حكمُ هذا هو الإباحةُ مِنْ بابِ أنَّ عائشةَ رضي الله عنها اتَّخذت بعد ذلك مِنْ هذا النَّمَطِ وِسادتَيْن، ولم يُنكِر عليها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ذلك، فدلَّ أنَّ الأنماطَ أو الكِسوةَ لا يُكرَه اتِّخاذُها لِذَاتِها، بل لِمَا يُصنَع بها ـ كما أشار إليه بعضُ أهلِ العلمِ عند ذِكرِهم لهذا الحديثِ ـ فهل لهذا ـ حَفِظَكم اللهُ ـ وجهٌ؟

وما رأيُكم فيمَنْ فَرَّق بين الكِسوةِ التي تكون خارِجَ البيتِ أو داخِلَه، فقال:

«سِترُ (سُتورُ) الجُدُرِ على قسمَيْن:

القسم الأوَّل: أَنْ يكونَ مِنْ ظاهرِ البيت، فيُستَرُ البيتُ أو الحُجرةُ كما تُستَر الكعبةُ، فهذا لا شكَّ أنَّه منهيٌّ عنه؛ لأنَّه يجعل بيتَه شبيهًا بالكعبة.

القسم الثَّاني: السِّترُ الدَّاخليُّ مِنْ باطن البيت، فهذا لا بأسَ به إذا احتاجه الإنسانُ، إمَّا للوقاية مِنَ البَرْدِ، أو الوقايةِ مِنَ الحَرِّ، أو الوقايةِ مِنَ الضَّوء أو شعاعِ الشَّمس كما إذا كان يريد أَنْ ينام؛ لأنَّ البناءَ الحديثَ ـ كما تعرفون ـ باردٌ في الشِّتاء وحارٌّ في الصَّيف، فإذا جُعِل على الجدارِ شيءٌ مِنَ القُماش فإنَّه يُخفِّف البرودةَ في الشِّتاء ويُخفِّف الحرارةَ في الصَّيف، فيكون هذا لا بأسَ به؛ لأنَّه ليس المقصودُ مِنْ ذلك السَّترَ لِذاتِه؛ ولكنَّ المقصودَ: ما يحصل مِنَ السَّتر مِنَ التَّدفئةِ في الشِّتاء وتلطيفِ الحرارة في الصَّيف، أو مِنْ حجبِ الضَّوء لِمَن أراد أَنْ ينام على وجهٍ يستريح به في نومه»(٣)، أفيدونا، جزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالَمِين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقبل الإجابةِ عن الاعتراض المطروح، فأودُّ أَنْ أُبيِّنَ ما يأتي:

ـ خروجَ الورَقِ عن معنى الكِسوةِ ـ كما تقدَّم في عنوان الفتوى السَّابقةِ ومضمونِها ـ لأنَّ الوَرَقَ المُزيِّنَ للبيوتِ الذي يُوضَع على الجدران هو في ذاته ليس ثوبًا؛ لأنَّ الكِسوةَ هي الثَّوبُ ونحوُه الذي يُستَرُ ويُحلَّى به؛ ويكون مصنوعًا مِنْ صُوفٍ أو قُطنٍ أو حريرٍ أو قُماشٍ أو نحوِ ذلك.

ـ أنَّ الحديثَ يفيد الكراهةَ لذلك الفعلِ؛ لأنَّ عدَمَ الأمرِ بالشَّيءِ لا يعني ـ بالضَّرورةِ ـ النَّهيَ عنه، وإنَّما غايتُه: نفيُ الأمرِ أي: نفيُ الوجوبِ والاستحباب، فدارَ بين الإباحةِ والنَّهيِ بقِسمَيْه: التَّنزيه والتَّحريم، وإنَّما استُفِيدَتِ الكراهةُ التَّنزيهيَّةُ مِنْ قولِ عائشةَ رضي الله عنها: «عرَفْتُ الكراهِيَةَ في وجهِه»، ومِنْ كونِه جذَبَه وهتَكَه، وقد يكون محرَّمًا لا مِنْ جهةِ كونه سَتْرًا للجُدران وإنَّما مِنْ جهةِ ما إذا كانت فيه صُوَرٌ محرَّمةٌ كذَوَاتِ الأرواحِ أو صُوَرٌ لِمَا لا يجوز النَّظرُ إليه كما سيأتي قريبًا.

ـ إذا كان سَتْرُ الحيطانِ غيرَ مقصودٍ للزِّينة والتَّجميل أو للسَّرَفِ والمُباهاةِ وإنَّما الدَّاعي إليه مُطلَقُ الحاجةِ، فإنَّه لا يدخل في حُكمِ الكراهة التَّنزيهيَّة، كسَترِ البُيوتِ مِنَ البَصرِ دفعًا للتَّجسُّس، أو وضعِ السِّتر على النَّوافذ لِصِيانةِ الحُرَمِ مِنْ نظرِ الأجانب مِنَ المارَّة، أو لِتَمييزِ مَدخَلِ النِّساءِ مِنْ مَدخَلِ الرِّجال بالسِّترِ على باب النِّساء خاصَّةً، أو حجبِ الضَّوءِ مِنَ الدُّخولِ إلى البيت جلبًا للنَّوم والرَّاحة، أو يكون الغرضُ مِنَ السَّتر: التَّدفئةَ في الشِّتاء، وتلطيفَ الحرارةِ في الصَّيف وقايةً مِنَ الحَرِّ والقُرِّ وأَشِعَّةِ الشَّمس، وما إلى ذلك مِنْ حاجاتِ الإنسان ومَطالِبه المعيشيَّة.

ـ لا يستقيم الاحتجاجُ بصُنعِ الوِسادتَيْن مِنَ النَّمَط على عدمِ كراهةِ السِّترِ على الجدران داخِلَ البيت؛ لأنَّ الوسادتين ليستا سِترًا للجدران لأنَّ غايتَهما أَنْ تكونا على الأرض أو على الفراش أو على السَّرير يُرتَفَقُ بهما؛ فلا يصلح الاحتجاجُ بعدمِ كراهةِ البُسُطِ والفُرُشِ والوسائدِ على الأرض للحاجة إلى ذلك للجلوس والنَّومِ، على عدمِ كراهةِ ذلك على الجدران؛ لأنَّه كما تجوز البُسُطُ والأفرشةُ على الأرض داخِلَ البيتِ فإنَّها تجوز خارِجَه، وقولُه: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ» يعمُّ الجدرانَ الداخليَّةَ والخارجيَّة، وإنَّما يختصُّ الخارجيُّ بمزيدِ كونِه مُشابَهةً ومُضاهاةً للكعبة.

ـ ولأنَّ المعلومَ أنَّ المُباحَ مُستوِيَ الطَّرَفَيْن هو: ما أَذِن اللهُ في فِعله وتركِه غيرَ مقترنٍ بذمِّ فاعلِه وتاركِه ولا مدحِه، فعُلِم أنَّ الإباحةَ لا تدخل في التَّكليف والطَّلب؛ لأنَّ التَّكليفَ إنَّما هو «الخطابُ بأمرٍ أو نهيٍ»؛ فإدخالُهَا في التَّكليف هو مِنْ باب المُسامَحةِ وإكمالِ القِسمة ولا مُشاحَّةَ في ذلك، بخلافِ حُكمِ سَتْرِ الحيطانِ والجُدرانِ لغرض الزِّينةِ والتَّجميل، فهو حكمٌ شرعيٌّ تكليفيٌّ حقيقيٌّ.

لذلك لا يقال: حكمُ هذا هو الإباحةُ، لا سيَّما أنَّه لم يأتِ ما ينصُّ على أنَّه مُباحٌ أو مَعفُوٌّ عنه، وإنَّما جاء ما يُومِئُ إلى كراهَتِه وهو وإِنْ كان جائزًا بالمعنى الذي يدخل فيه ما لا إثمَ في فِعلِه فهو ليس مِنَ المُباحِ الاصطلاحيِّ مُستوي الطَّرَفين، ولا أَعلَمُ أحَدًا قال به؛ ولا هو للتَّحريمِ، إذ ليس في السِّياقِ ما يدلُّ على تحريمِه، وإنَّما فيه نفيُ الأمرِ بذلك، ونفيُ الأمرِ لا يستلزم تعيُّنَ النَّهيِ أو الإباحةِ، ولأنَّ سبَبَ هتكِ النَّمَطِ في حديثِ عائشةَ رضي الله عنها إنَّما هو مِنْ أجلِ ما فيه مِنْ صُوَرِ ذواتِ الأرواح كما ورَدَ ذلك في بعض الرِّوايات في الصَّحيح، قال النَّوويُّ ـ رحمه الله ـ: «وقَدْ صرَّحَتْ في الرِّواياتِ المذكوراتِ بعد هذه بأنَّ هذا النَّمَطَ كان فيه صُوَرُ الخَيلِ ذَوَاتِ الأَجنحةِ، وأنَّه كان فيه صُورَةٌ، فيُستدَلُّ به لِتغييرِ المُنكَرِ باليدِ، وهتكِ الصُّوَرِ المُحرَّمةِ، والغضبِ عند رُؤيةِ المُنكَرِ، وأنَّه يجوز اتِّخاذُ الوسائدِ واللهُ أَعْلَمُ، وأمَّا قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم حين جَذَبَ النَّمَطَ وأَزالَه: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ» فاسْتَدَلُّوا به على أنَّه يُمنَعُ مِنْ سَترِ الحِيطانِ وتنجيدِ البيوت بالثِّياب(٤)، وهو منعُ كراهةِ تنزيهٍ لا تحريمٍ، هذا هو الصَّحيحُ، وقال الشَّيخُ أبو الفتحِ نصرٌ المَقدِسيُّ مِنْ أصحابِنَا: هو حرامٌ؛ وليس في هذا الحديثِ ما يقتضي تحريمَه؛ لأنَّ حقيقةَ اللَّفظِ: أنَّ اللهَ تعالى لم يأمُرْنا بذلك، وهذا يقتضي أنَّه ليس بواجبٍ ولا مندوبٍ، ولا يقتضي التَّحريمَ»(٥)، وقال ابنُ قُدامةَ رحمه الله ـ عَقِبَ ذِكره للأحاديث في هذا الباب ـ ما نصُّه: «إذا ثَبَتَ هذا فإنَّ سَتْرَ الحِيطانِ مكروهٌ غَيرُ مُحرَّمٍ، وهذا مذهبُ الشَّافعيِّ؛ إذ لم يَثْبُتْ في تَحريمِه دليلٌ، وقد فعَلَهُ ابنُ عُمَرَ، وفُعِلَ في زَمن الصَّحابةِ رضي الله عنهم، وإنَّما كُرِهَ لِمَا فيه مِنَ السَّرَفِ كالزِّيادةِ في الملبوسِ و[السَّرفِ في] المأكول، وقد قِيلَ: هو مُحرَّمٌ لِلنَّهيِ عنه؛ والأَوَّلُ أَوْلى، فإنَّ النَّهيَ لم يَثْبُتْ، ولو ثَبَتَ لَحُمِلَ على الكراهةِ لِمَا ذَكَرْناهُ»(٦).

هذا، وأمَّا تقسيمُ سَترِ الجُدُرِ على قسمين: خارجيٍّ وداخليٍّ فعندي لا يستقيم ـ أيضًا ـ لأنَّ السَّلفَ ـ مِنْ جهةٍ ـ استدلُّوا بالأحاديثِ المرفوعة والموقوفةِ على شُمُول القسمين معًا، فلم يُفرِّقوا بين الكسوةِ الظَّاهرة مِنَ الخارج أو المَستورة في الدَّاخل، وإِنِ اقتصروا على تشبيهِ السِّترِ الظَّاهرِ مِنَ الخارج بالكعبة دون الكسوةِ مِنَ الدَّاخل، وقد أَخرجَ البيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ عن عبدِ الله بنِ يزيدَ الأوسيِّ الخَطْميِّ رضي الله عنه، مِنْ حديثِ مُحمَّدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ قَالَ: دُعِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ إِلَى طَعَامٍ، فَلَمَّا جَاءَ رَأَى الْبَيْتَ مُنَجَّدًا فَقَعَدَ خَارِجًا وَبَكَى؛ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: «مَا يُبْكِيكَ؟»، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَيَّعَ جَيْشًا فَبَلَغَ عَقَبَةَ الْوَدَاعِ قَالَ: «أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَاتِكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ»، قَالَ: فَرَأَى رَجُلًا ذَاتَ يَوْمٍ قَدْ رَقَعَ بُرْدَةً لَهُ بِقِطْعَةٍ قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَقَالَ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَيْهِ، وَمَدَّ عَفَّانُ يَدَيْهِ، وَقَالَ: «تَطَالَعَتْ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا» ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَيْ: أَقْبَلَتْ ـ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ يَقَعَ عَلَيْنَا، ثُمَّ قَالَ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ إِذَا غَدَتْ عَلَيْكُمْ قَصْعَةٌ وَرَاحَتْ أُخْرَى، وَيَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَتَسْتُرُونَ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟»»، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ: «أَفَلَا أَبْكِي وَقَدْ بَقِيتُ حَتَّى تَسْتُرُونَ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ»(٧)، وعند سعيدِ بنِ منصورٍ وغيرِه مِنْ حديثِ سَلْمانَ الفارسيِّ رضي الله عنه موقوفًا، فعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: تَزَوَّجَ سَلْمَانُ إِلَى أَبِي قُرَّةَ الْكِنْدِيِّ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ: «يَا هَذِهِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي: إِنْ قَضَى اللهُ لَكَ أَنْ تَزَوَّجَ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا تَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ طَاعَةٌ» فَقَالَتْ: «إِنَّكَ جَلَسْتَ مَجْلِسَ الْمَرْءِ يُطَاعُ أَمْرُهُ»، فَقَالَ لَهَا: «قُومِي نُصَلِّي وَنَدْعُو» فَفَعَلَا، فَرَأَى بَيْتًا مُسْتَتِرًا فَقَالَ: «مَا بَالُ بَيْتِكُمْ: مَحْمُومٌ أَوْ ‌تَحَوَّلَتِ ‌الْكَعْبَةُ فِي كِنْدَةَ؟» فَقَالُوا: «لَيْسَ بِمَحْمُومٍ وَلَمْ تَتَحَوَّلِ الْكَعْبَةُ فِي كِنْدَةَ»، فَقَالَ: «لَا أَدْخُلُهُ حَتَّى يُهْتَكَ كُلُّ سِتْرٍ إِلَّا سِتْرًا عَلَى الْبَابِ»(٨)؛ وهذان وإِنْ كانا في ظاهِرِهما في كِسوةِ البيت مِنْ خارجِه فقَدْ علَّق البخاريُّ بصيغة الجزم ـ التي تعني الثُّبوتَ عنده عمَّنْ علَّقه عنه ـ مبوِّبًا في «النِّكاح» فقال: «باب: هل يرجع إذا رأى مُنكَرًا في الدَّعوة؟ ورأى ابنُ مسعودٍ [أو أبو مسعودٍ] صورةً في البيت فرجَعَ، ودَعَا ابنُ عُمَرَ أبا أيُّوبَ فرأى في البيت سِترًا على الجدار، فقال ابنُ عُمَرَ: «غلَبَنا عليه النِّساءُ»، فقال: «مَنْ كُنتُ أخشى عليه فلم أَكُنْ أخشى عليك، واللهِ لا أَطعَمُ لكم طعامًا» فرجَعَ»(٩) اﻫ؛ فإنَّ قولَه: «في البيت» ظاهرٌ في كونِ السِّتر داخِلَه لا على جدارِه الخارجيِّ.

ولأنَّ تقسيمَ الحكمِ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ إلى: أصلٍ ومُستثنَيَاتِه أَوْلَى مِنْ وضعِه في أقسامٍ متساويةٍ في الأصلِ، مختلفةٍ في الحكمِ؛ وبيانُ ذلك أَنْ يقال:

الأصلُ التَّحريمُ إِنْ كانت كسوةُ جُدرانِ البيوتِ بالحريرِ أو الذَّهبِ أو بالصُّوَرِ المُحرَّمة، والكراهةُ التَّنزيهةُ إِنْ كانت الكسوةُ لغرضِ الزِّينةِ والتَّجميلِ لعمومِ الأدلَّةِ الواردةِ فيها، ويُستثنَى ما كان السِّترُ أو الكِسوةُ للحاجةِ أو لِدَاعٍ فيجوزُ بلا كراهةٍ، وكُلُّ ما زاد على الحاجةِ فهو سَرَفٌ مكروهٌ، قد يرتقي ـ بحسبِ حالِه ـ إلى التَّحريمِ، قال ابنُ تيميَّةَ ـ رحمه الله ـ: «ويُكرَهُ تعليقُ السُّتورِ على الأبوابِ مِنْ غيرِ حاجةٍ لوجودِ أغلاقٍ غيرِها مِنْ أبوابِ [الخشبِ] ونحوِها، وكذلك [تَكرارُ] السُّتورِ في الدِّهليز لغيرِ حاجةٍ، فإنَّ ما زادَ على الحاجة فهو سَرَفٌ، وهل يرتقي إلى التَّحريمِ؟ محلُّ نظرٍ»(١٠).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمِين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في:١٧ رجب ١٤٤٥ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٩ جانفي ٢٠٢٤م



(١) النَّمَط وجمعُه الأنماط: هي ضربٌ مِنَ البُسُطِ له خَمْلٌ رقيقٌ؛ [انظر: «النِّهاية» لابن الأثير (٥/ ١١٩)، «شرح مسلم» للنووي (١٤/ ٨٦)].

(٢) أخرجه مسلمٌ في «اللِّباس والزِّينة» (٢١٠٧) باب: لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةٌ.

(٣) «لقاءات الباب المفتوح» لابن العثيمين (٢/ ٦) [بتصرُّف].

(٤) تنجيدُ البيوتِ بالثِّياب هو تزيينُها بها؛ ويُسمَّى عامِلُ ذلك الشَّيء: نّجَّادًا؛ [انظر: «غريب الحديث» لأبي عُبَيْدٍ القاسم بنِ سلَّام (٣/ ١١٣)].

(٥) «شرح مسلم» للنووي (١٤/ ٨٦).

(٦) «المغني» لابن قدامة (٧/ ٩).

(٧) أخرجه البيهقيُّ (١٤٥٨٧)، وأحمد في «الزُّهد» (١٦١) رقم: (١٠٩٤)، وأبو بكرِ بنُ أبي شيبة في «مُسنَدِه» كما في «المَطالِب العالية» لابنِ حجر (١٠/ ٣١٣، ١٣/ ٤٠٠)؛ وإسنادُه صحيحٌ ورجالُه كُلُّهم ثقاتٌ؛ انظر: «إتحافَ الخِيَرة المَهَرة» للبُوصيري (٥/ ١١٥)، «السِّلسلة الصَّحيحة» للألباني (٥/ ٤٩٩)؛ وقال محمَّد ضياء الرَّحمن الأعظميُّ في «الجامع الكامل في الحديث الصَّحيح الشَّامل المرتَّب على أبواب الفقه» (١٢/ ٢٠٦): «صحيحٌ: رواه أحمدُ في «الزُّهد» (١١٠٢) عن عفَّان: حدَّثنا حمَّادُ بنُ سَلَمةَ: أنبأنا أبو جعفرٍ الخَطْميُّ: عن محمَّدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ قال: فذَكَرَه. وإسنادُه صحيحٌ؛ وأبو جعفرٍ الخَطْميُّ هو عُمَيْرُ بنُ يزيدَ بنِ عُمَيْرٍ الأنصاريُّ، وثَّقه ابنُ مهديٍّ وابنُ نُميرٍ وابنُ مَعينٍ والنَّسائيُّ وغيرُهم؛ قال الهيثميُّ في «المَجمَع» (١٠/ ٥٨١): «رواه الطَّبرانيُّ ورجالُه رجالُ الصَّحيح، غيرَ أبي جعفرٍ الخَطْميِّ، وهو ثقةٌ». ولم أَقِفْ عليه في مطبوعةِ الطَّبرانيِّ لأنَّه لم يُطبَع كاملًا إلى الآن».

(٨) أخرجه مُنقطِعًا عبدُ الرزَّاق عن ابنِ جُرَيجٍ بغيرِ هذا السِّياق وفيه زيادةٌ (١٠٤٦٣)، وسعيدُ بنُ منصورٍ في «سُنَنه» (٥٩٢) عن سفيانَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، واللَّفظُ للبيهقيِّ مِنْ طريقِ سعيدِ بنِ منصورٍ (١٤٥٩١) وقال: «هذا مُنقطِعٌ؛ ورُوِّينَا في كراهِيَةِ ذلك عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه، ويُشبِهُ أَنْ يكونَ ذلك لِمَا فيه مِنَ السَّرَفِ، واللهُ أَعْلَمُ».

(٩) «صحيح البخاري» ومعه: «فتح الباري» لابن حجرٍ (٩/ ٢٤٩).

(١٠) «الفتاوى الكبرى» (٥/ ٤٨٠) و«المستدرك على مجموع الفتاوى» (٣/ ٧٣) كلاهما لابن تيمية، «الاختيارات الفقهيَّة مِنْ فتاوَى ابنِ تيميَّة» للبعلي (٢٠٥).